لا تكاد تنجو أو تخلو دولة من دول العالم من آفة الفساد التي تنخر بنيانها وبنياتها القائمة، تلك التي تعمل هدماً وتدميراً، مثلما تعمل الفيروسات في الأجساد البشرية. بما باتت تلك الآفة تحفره عميقاً في خلق بطالة إقتصادية تتوسع بإضطراد، موسعة معها تلك المساحة الهائلة من العطالة السياسية في بعض المجتمعات ? والدول العالمثالثية خصوصاً، وبما يفسح مزيداً من المجال في تظهير مشكلة الفقر، والفقر المطلق أحياناً، والتي لا تكاد تخلو منه أكثر الدول والمجتمعات غنى وإمتلاكاً للثروات. وإذا كان للفساد، وللفقر كناتج من نواتجه الطبيعية رعاته وأربابه وزبائنه، من مؤسسات دولية، إلى سلطة االدولة وحتى أصغر المستفيدين من طغم المصالح الخاصة المتنفذة أو الوكيلة والوسيطة، فإن علة العلل تكمن في ما انتجته بنى السلطة ما قبل الدولتية كاحدى نواتج وافرازات البنى المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والايديولوجية التي إحتكمت وتحتكم وتتحكّم بها سلطة القيم والاخلاق الأبوية البطركية في إغترابها، وفي خروجها عن أنساق الضبط ومعايير وآليات التحكم الذاتية، وخروجها على الروح الاجتماعية، وبالتالي إنفلاتها وتفلّتها من كل ضوابط ممكنة، حتى الدينية منها. وقد شكل تقرير مكتب المفتش العام في وزارة النفط العراقية برئاسة علي العلاق، سابقة في تاريخ الحكومات العراقية، بل العربية. إذ فضح التقرير الرسمي في شكل دقيق ظاهرة الفساد المتفشية في مؤسسات الدولة، خصوصاً تجارة تهريب النفط الخام والمنتجات النفطية العراقية في العراق والخارج. وتكمن الاهمية الحقيقية للتقرير في جرأة مكتب المفتش العام في وزارة النفط الذي كشف هذا الملف الحساس، وفي التشديد على هذه الظاهرة التي ضيعت على العراق بلايين الدولارات خلال السنوات الثلاث الماضية. وربما أهم ما في الموضوع إستخلاص النتائج. علماً ان التقرير فضح شرائح مهمة من الطبقات السياسية والاجتماعية والدينية إنغمست في شكل او آخر في عمليات الفساد والتهريب، كما تطرق إلى آثار هذا الوضع على العملية السياسية المتعثرة والارهاب في العراق الحياة 6/5/2006. وقبلها كانت تقارير المنظمات الدولية قد أظهرت على الاقل سوء إدارة وإئتمان القائمين على برنامج النفط مقابل الغذاء، كما كانت هيئة رقابة دولية قد أكدت سوء إدارة الثروة النفطية من قبل السلطات العراقية، تماماً كما فعلت السلطات الاميركية بعد إحتلالها العراق وتمكينها شركاتها وشركات محافظيها الجدد من السيطرة على أغلب عقود الاعمار والتسليح والتدريب والشركات الامنية في عملية نهب منظم لثروات الشعب العراقي، ما دفع منظمة الشفافية الدولية في تقريرها العام الماضي للتحذير من ان عملية إعادة اعمار العراق يمكن ان تتحول إلى اكبر فضيحة فساد في التاريخ. وفي اللائحة التي أصدرتها منظمة الشفافية الدولية عن الدول الاكثر فساداً، تصدرت آيسلندا قائمة الدول ال 159 ومن ضمنها دول غنية وفقيرة تفاوتت نسب الفساد فيها، لكنها جميعاً كانت متساوية تقريباً في حجم إفقارها لشعوبها ونهبها لثرواتها وإقعادها عن كل محاولة للتقدم بإتجاه إحداث تنمية حقيقية في بلدانها في ظل تحكم نخب محلية ومؤسسات دوليه في إقتصاداتها الوطنية وتحويلها إلى إقتصادات تابعة لأسواق العولمة الليبرالية، ما ساهم في إنقيادها وإنحيازها الاعمى لقيم السوق العاملة على تشكيل المجتمعات والدول على صورة النمط الليبرالي الجديد الصاعد بوحشية للإطباق والهيمنة ليس على أسواق العالم، بل على دوله ومجتمعاته وتشكيلها هي الاخرى على صورة السوق. ولاحظت دراسة لمؤتمر الاممالمتحدة للتجارة والتنمية"أونكتاد"أن الفساد في مناطق السلطة الفلسطينية لا يزال مشكلة، وان كانت مرتبطة إلى حد بعيد بسياسة الاحتواء اللامتكافئ التي يخضع لها الاقتصاد الفلسطيني. وأشارت إلى أنه رغم تحقيق تقدم في بعض المجالات، بما فيها المالية العامة وتطوير نظام جمركي متكامل، إلا ان البناء على هذه المنجزات أعاقه الاحتلال وإستمرار الصراع الداخلي والافتقار إلى السيادة. وكانت المنظمة العربية لمكافحة الفساد قد عقدت ندوة بعنوان المشاريع الدولية لمكافحة الفساد والدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي في الاقطار العربية في بيروت يوم 7 حزيران يونيو من العام الماضي هدفت إلى إجراء حوار نقدي شامل حول ما يطرح من منظمات وجهات دولية على أقطارنا العربية حالياً، من مفاهيم محددة للفساد والاصلاح السياسي والاقتصادي بهدف تقويمها وتوضيح مدى ملاءمتها لمسيرة التنمية المستدامة فيها، حسب د. سليم الحص رئيس إدارة ومجلس أمناء المنظمة. هناك دائماً إعادة إنتاج لأنماط من الفساد في كل زمن، وفي ظل أي نظام سياسي، خصوصاً في ظل تلك النظم الشمولية الاستبدادية، المحكومة على الدوام لإنحيازاتها إلى شكل من أشكال التنوع الافسادي، وربما الاختيار والمفاضلة في ما بينها"حسب ما تتطلبه ضرورات ضمان إستمراريتها، خاصة وأن غياب الرقابة والمحاسبة من جانب المؤسسات التي يفترض قيامها بهذه المهمة، كالمجالس النيابية المنتخبة ? أو حتى المعينة ? يتيح مجالاً واسعاً لهذه النظم في تنويع مجالات وأساليب الإفساد، ونشرها وسط أكبر مساحة ممكنة من مساحات هيمنتها على الدولة والمجتمع، في توجه واعٍ منها لتوريط قوى ونخب بهدف إضعافها، عبر إستشراء الفساد في صفوفها وسيلان لعابها جراء جريان المال العام المنهوب في جيوبها، وبالتالي ضمها إلى القاعدة الاجتماعية للنظام. وإذا كان الفساد أحد أوضح وجوه الإستبداد السياسي، في سياق هيمنته على السلطة وعلى المجتمع، فإن الوجه الآخر سوف يتلازم بالضرورة مع إشاعة المحسوبيات وهدر وسرقة المال العام للمنافع الشخصية و/أو العائلية أو حتى الحزبية، وذلك كوسيلة من وسائل شراء الذمم والولاءات والسكوت وإستشراء حالة الخوف، وإستنباتها كثقافة في أروقة العديد من الدول التي تتواطأ السياسة فيها على إختراق كل معايير وقيم وأخلاقيات الاجتماع الانساني ومتطلبات النزاهة والشفافية، إختراقاً يشكل بحد ذاته مساهماً أول في إستتباع الدولة للخارج، ليس إنطلاقاً من السياسة، بل إستناداً إلى عوامل الاقتصاد والسوق والمساعدات الخارجية المشفوعة بإشتراطات وضغوط وإملاءات، تساهم هي الاخرى في تفشي ظاهرة الفساد والإفساد في حلقاتهما المتوالية والتدرجية"بدءاً من الوظائف الصغرى وصولاً إلى أكبرها وأعلاها هيمنة على مقدرات الدولة والمجتمع والثروة، وهو ما يشكل حاملاً من حوامل تدمير كل الآليات التي كان من الممكن أن تنشأ للحفاظ على المال العام، ودرءاً لإستفحال الإفقار، وتصحير المجتمع وحماية لثروته الوطنية. وما يمكن إعتباره إستراتيجية الفساد المحورية يقوم على مستويين: مستوى فردي وآخر جماعي أو إجتماعي يطال المؤسسات والمجموعات والتكوينات والنخب، وحتى السلطات العليا المهيمنة على مؤسسة الدولة أو مؤسساتها الرديفة، كل في مجاله وفي سياق وظيفي محدد يرتبط بالعلاقات السياسية والاقتصادية بالخارج، لكن التفسير الوظيفي هنا لا يكفي وحده لإستكناه وإستبطان حالات الإفساد الجماعي أو الاجتماعي في سياق وظيفتها السياسية، إلى جانب أنماط الفساد الفردية، وهي كلها تندرج في أنساق من إنتهاك القيم والاخلاق التي تواضع عليها الفرد والمجتمع في حيزات وبيئات معينة، مهما إختلفت تبقى تلك الانتهاكات متّسقة وأنماط السلوك الضارة والمدمرة التي تلحق ببنى المجتمعات والدول، وحتى تلك المؤسسات المفترض أنها قائمة لخدمة الصالح العام. لكن وعلى الجانب الآخر من إستراتيجية مكافحة الفساد والإفساد، يمكن القول انه حتى الديموقراطيات التوافقية المتضمنة تقسيم مغانم السلطة بين أطرافها الفئوية والإثنية والطائفية، لن يكون في مقدورها ذلك، ما دامت تحتكم إلى بنية القيم البطركية ذاتها التي تجعل من محورية الفساد وإستراتيجيته بطابعه الفردي أو الجماعي، الأصل في ممارسة السياسة أو الدخول إلى معترك الحياة العامة من باب السياسة، أي ما يعنى الاقتراب أو الانخراط في السلطة، وكل سلطة بالضرورة، أيّا كانت القوى التي تقودها سياسية أو ذات طابع وشعارات دينية، سوف تقع في شرك توزيع المغانم بين أطرافها، أو لكسب الولاءات الشخصية أو الفئوية لوظائف عامة هنا أو هناك. وبالتالي فإنها لن تستطيع التفلّت من شبكة العلاقات الإفسادية المهيمنة على الدولة والمجتمع حتى لو أرادت. وكل ما يمكن أن يكون حاصل عملية مكافحة الفساد والإفساد"الحد منه كثيراً او قليلاً، إنما دون الوصول إلى القضاء عليه نهائياً، خصوصاً في مجتمعات تتحكم فيها سلطات بطركية بقيمها"الثابتة"التي"تسمو"إلى مستوى التقديس أحياناً. وفي ظل النهوض الامني الذي ترعاه الدولة، على حساب أي نهوض أو إستنهاض سياسي/إقتصادي/إجتماعي/ثقافي، يبرز الركود كأحد أبرز تجليات التحجر الدولتي، كإنعكاس لذلك العجز الكلي عن القيام بأي مهمة إصلاحية لحال الإنسداد الذي تبلغه الدولة، بكل تعبيراتها، العاجزة عن تطوير أدائها وآليات إستنهاض قواها أولاً. طالما أن المقصود بالإصلاح هو معالجة الاختلال، الناتج عن ممارسة أو رعاية الفساد والإفساد لبنى السلطة القاصرة والعاجزة عن رؤية ما قد يؤدي إليه تحجرها وركودها من إنتشار حال أو حالات سن تشريعات أو قوانين موازية، تتواطأ فيها النخب الموظفة وشرائح واسعة من المواطنين على تجاوز القوانين التي من المفترض بالدولة حراستها، كونها ناتج هيمنتها على المجتع، وحاصل رأسمالها الرمزي الذي تقوم بنيتها"وثقافتها"على أساسه. وإذ ينبغي أن يشكل القضاء والتشريعات القانونية حصناً منيعاً أمام هجمات الفساد والمفسدين، إلا أن تغوّل النظام السياسي و"تأمين"وتأميم القضاء، بل والفضاء العام للسياسة، حوّل هذا الحصن في العديد من البلدان ? للأسف ? إلى قلعة كرتونية. فيما أدى تخلف التشريعات والقصور في تطبيق القوانين وعدم التعاطي معها بإحترام، وإنتهاك حرمتها، بتجاوزها وتخطي هيبتها، دوراً أساسياً ورئيساً في إفشاء حال الفساد السياسي، وتكريس قيم الولاء القائمة على الرشى وتوزيع المغانم وسرقة المال العام و/أو إهداره، ما أدى إلى تشكل بنية أو بنى ناهضت القانون في تواطؤها وإنحرافها عن معايير النزاهة والشفافية وإنتهاكها لقيم المجتمع المعلنة، وتدميرها لأخلاقيات، طالما جرى التغنى بها، كونها الموروث التقليدي الاجتماعي أو الديني أو السياسي في جانبه العقيدي، الذي قامت وتقوم على عصبه الدولة والمجتمع وثقافتهما السائدة في الوعي الجمعي. وهكذا كانت الانتقائية في تطبيق القوانين وإستنسابها، تتأسس على ذات القاعدة من تطوير بنى الفساد والافساد التي ترعاها الدولة، تواطؤاً مع الجهات المفترض أنها حارسة القانون، فتسييس القضاء وإبتلاع سلطته وضمها إلى سلطة النظام ، إنما هي جزء مع عملية التطويع والتطويح بكامل السلطات الاخرى، وضمها إلى ممتلكات إقطاعية السلطة وسلطة المال والثروة القادرة على عملية البيع والشراء،. واقع الحال أن الفساد السياسي وإختلاس المال العام وحال التواطؤ القائمة بين أفراد المجتمع في إستشراء الرشوة وتبادل المنافع فيما بينهم وبين الدولة ممثلة بموظفيها، قد أحال الرأسمال الرمزي للدولة إلى ما يقارب الصفر من الخواء الاخلاقي والقيمي. فيما أحال رأسمالها المادي إلى ما يقارب الحد الادنى من خواء الخزينة العامة، ورفع سقوف الدين العام إلى أرقام فلكية، لن تستطيع الأجيال القادمة مجرد التصوّر أنها سوف تكون قادرة على الحد منه، او سداد جزء منه، في مستقبل منظور يزداد قتامة بفعل حاضر قاتم اصلاً، يعمل التواطؤ المتوافق عليه بين الدولة والمجتمع في الداخل، والدولة وعلاقتها بالخارج على رسم ملامح له أكثر قتامة. * كاتب فلسطيني.