قبل عشرين سنة كتبت مقالا عنوانه"ما الذي يريده الشعراء؟"وكان مكرساً للمتنبي في شكل خاص، واليوم أجد نفسي أمام السؤال نفسه من جديد، لأن ظاهرة المتنبي تجاوزت حدود الماضي لتصبح ملمحاً أساساً في حياتنا الثقافية العربية المعاصرة في شكل واسع، ولذا، فبقدر ما يتعلق الأمر بالمتنبي وعلاقته بالسلطة، فإنه أحد أهم مظاهر الثقافة العربية اليوم، في حالة حيادها، إن لم نقل في حالة صمتها وركضها المحموم نحو الوصول لامتلاك السلطة، أي سلطة. مما لا شك فيه، أن المتنبي كان المثال الأكبر الذي يجمع في داخله بين الشاعر الكبير والشخص الساعي لمنصب أقل من شعريته، وهو بذلك وجه من وجوه التراجيديا، حيث السلطة تتحول إلى عَقب، كما حدث مع آخيل ذات يوم. لكن المتنبي رغم ذلك لم يمت، بل عاش، لأنه في ظني أكثر تعقيداًً من الأمثولة الإغريقية، لا لشيء إلا لأنه مكوّن من طبقات كثيرة من النقائض الإنسان والمثقف مجتمعين، وهو بذلك صورة لنصه، الذي كلما وصلنا إلى طبقة جديدة من طبقاته، تبين لنا أننا لم نكتشف الطبقة التي سبقتها تماماً. إنه بعبارة أخرى شخصية روائية مثالية خارج التنميط المبسط، وهو بذلك ليس شاعراً فقط، بل سؤالا إنسانياً لم يزل يطرحه البشر على أنفسهم وهم يسعون بكل ما لديهم للوصول إلى السلطة، أي سلطة يعتقدون أن كينونتهم لا تتحقق وتكتمل إلا بوصولهم إليها. هل كان المتنبي يريد حماية نصه وهو يسعى لامتلاك السلطة، أم كان نصه الذريعة التي لا بد أن يملكها وهو يرى أن السلطة من حقه هو أكثر من سواه؟ أما لماذا عاش كل هذا الزمن، فلعل ذلك يعود إلى سببين، الأول أننا لا نستطيع الاختلاف على شعره كثيراً، والثاني أن هناك ثقافة تَعبرُ فكرة الاختزال، لأن الاختزال يعني اكتفاءها بالواحد ويريحها من السعي للبحث عمن سواه، حتى وإن كان بمستواه أو ربما أفضل. هل تغير الزمن كثيراً؟ لا أظن ذلك. * شاعر فلسطيني - أردني