رحل "نزار قباني" ثيراً خلفه طوفانات من الأسئلة حول مصداقية شعره، وحداثيته، ومدى انتمائه أو تخطّيه مفاهيم عصره الجمالية والاجتماعية والسياسية وغيرها... آخر هذه الأسئلة، وربما أكثرها إرباكاً، ما يتعلق بقدرة شعر نزار على "الصمود أمام حكم الزمن" ولعله السؤال الأكثر صعوبة ليس في ما يخص شعر نزار فحسب، بل في ما يتعلق بطبيعة الشعر كله.. وقدرته على الاحتفاظ ب"كرسيه" الاعتباري على منصة التاريخ الذهبي لقدامى المحاربين. السؤال - هذا السؤال تحديداً - سيبقى معلقاً في الهواء، تماماً كسؤالنا عن إمكانية خلود أرواح الموتى، ذلك لأن أحداً منا، نحن المنتسبين الى عقيدة الجمال، لا يستطيع - أو ربما لا يحق له - أن يكون حَكَماً نيابة عن التاريخ: لقد فعل نزار قباني ما يستطيع أن يفعله بغضّ النظر عما إذا كان هذا "الذي فعله" جديراً بالخلود أم لا. هذا السؤال إذاً... سؤال حول مستقبل المغامرة الفنية وقدرتها على أن تظل "مغامرة" مستمرة في الزمن، وبالتالي قادرة على تخطّي تحديات المستقبل.. مسلّحة بأدوات المستقبل نفسه!!... ما هو "حديثٌ" اليوم سيغدو تقليدياً في الغد: تلك هي أمثولة الزمن. ومطالبة الشعر بالبقاء في سجل "الحداثة الفنية" الى ما وراء زمنه شكل من أشكال المطالبة بالمستحيل. فلكل زمن حداثته وإنجازاته ومعايير جماله، وفي حدود هذه الحداثات والمعايير استطاع نزار قباني أن يكون حياً: استطاع أن يحول الكلمات الى أسئلة. ساهم نزار، على مدى أكثر من نصف قرن، في تحريك الحياة الثقافية والاجتماعية. أثار من الأسئلة ما يجعله جديراً أن يكون "خالداً في عصره". أما فيما يتعلق بالخلود المطلق... فلا أحد يضمن الأبدية، لا أحد يستطيع - خلف الزمن - الاستمرار في رعاية أسطورة نفسه: الزمن ممحاة الأساطير، وليس بوسع الجميع أن ينجوا من صرامة هذه الممحاة... مثلما أن الجميع عاجزون من أن يكونوا ورثة لدانتي أو شكسبير أو المتنبي... هل "يخلد" شعر نزار؟... أو ما الذي سيخلد منه؟!... من جهتي أعترف بالعجز عن الإجابة، لكنني أضيف علامة استفهام أخرى الى السؤال: من يضمن استمرار المتنبي... أو ابن الرومي... أو خليل حاوي على سبيل المثال؟!... أعتقد أن المتنبي نفسه، لو عاد حياً الآن، لما استطاع أن يعيش من عائدات شعره، ذلك أن القرّاء الشجعان الذين ما زالوا على صداقتهم مع شعر المتنبي باتوا أقل من أحفاده الشعراء. بهذا المعنى: المتنبي شاعر متهم بالخلود. أما في ما يتعلق بجماهيرية نزار، وشعر نزار، فأنا أعتقد أن كل جماهيرية هي "كمين" بشكل ما. ولعل شعر نزار، الآن... بعد غيابه، سيغدو مؤهلاً للقراءة بعين أكثر إنصافاً وأقلّ تطرفاً. سيُقرأ بمنأى عن إرهاب جماهيريته: سيُقرأ بعين حرة. أما لماذا لم يحصل ذلك من قبل، فذلك لأن نزار قباني كان على الدوام "صنماً جمالياً".. صنماً معبوداً أو مكفّراً، لكنه - في جميع الحالات - كان صنماً لا يُمسّ، صنماً مصنوعاً من عاطفة محبين وعابدين. ولعل إحدى أخطر مآزقه الإبداعية أنه عاش مستسلماً لإغراء هذا الحب وتلك العبادة، وهكذا لم يكن بوسعه أن يعيد قراءة نفسه.. بل كان يؤمن بها. إن الاستسلام لحب الآخرين في الشعر كما في الحياة، وبقدر أكبر في السياسة قد يتحول، بحسن نيّة متبادل، الى خطر حقيقي يتهدد حرية الشاعر، ويفرض عليه في أحيان كثيرة التسليم ب"ديانة" فنية مغلقة، كسول، وغير قابلة للتطور والنمو!... هذا الحب الحب القاسي، كما سمّاه محمود درويش هو بعض من الأدوات السرية التي تصنع جماهيرية الشاعر. والجماهيرية، بقدر ما تقدّم من هبات الى الشاعر أو سواه، بقدر ما تكون قيداً... قيداً مغوياً يستسلم الشاعر له بحيث يغدو أسير جماهيريته نفسها... أسير نمط ولغة وأفكار ساهمت جميعها في تأسيس هذا الحب. وبهذا المعنى تتحول الجماهيرية الحب الى عائق يحول دون إمكانية أن يطور الشاعر لغته وأدواته ومسعاه الجمالي، بل يغدو رهينة لدى قارئه المحب. يستسلم ل"حب" القارئ الكسول فلا يعود قادراً ولا راغباً في البحث عن صيغ وأدوات جمالية أخرى، بل يواصل المشي داخل الدائرة "العاطفية" الخطرة التي رسمها له القارئ حتى تحولت الى سجن حسن التأثيث.. تغدو كل محاولة للخروج منه ضرباً من "الكفر" بهدايا الصداقة والحب!... وهكذا - بهذا التسليم اللبق - يتخلى الشاعر عن شجاعته فيغدو عاجزاً عن إحداث الانقلابات الكبرى: هكذا يحكم على نفسه بالثبات الذي هو الصورة الأكثر شحوباً بين صور الخلود كلها. الشعر - خارج طقوس العبادة - انقلاب يومي يمارسه الشاعر ضد نفسه. الشعر نقيض الرضى، نقيض الوثنية والوثنية هنا هي الاسراف في عبادة الوثن الشخصي: إسراف في عبادة النفس. وثن نزار كان نفسه، ولغته، والصورة الأبدية التي خلقها عن المرأة بحيث لم يعد قادراً على نقضها أو تعديلها: وثنٌ خطير وجالبٌ للنحس. وهكذا - في ظل هذا الحب الوثني - يتحول الشاعر الى جندي مخلص يحارب في جيش نفسه، وتحت إمرة نفسه، وأيضاً للدفاع عن سلامة نفسه: هكذا يكون الجندي قد حكم على نفسه بالهزيمة... هزيمة البطل المعشوق. المحزن أن نزار قباني لم يكن قادراً على خيانة هذا الوثن الشعبي للحب... لهذا كان عاجزاً عن الانقلاب عليه. مع ذلك... استطاع نزار أن يكون "البطل الشعري" الأكثر حضوراً في عصره، استطاع أن يكون خالداً فيه: استطاع أن يكون خالداً "في حصته من الزمن". ولعله - بهذا الخلود الساطع والقاسي - استطاع أن يحرك أعظم الأسئلة: استطاع أن يتحول الى سؤال.