الناقد محمد الخباز يبحث عميقا ليصل لشبهة اليقين، تربى على شعر المتنبي حتى أشكلت عليه رؤية ذاته وذات المتنبي اللتين تتداخلان في مرايا النص، أصدر كتابين نقديين وديواني شعر، كان لكتابه النقدي (صورة الآخر في شعر المتنبي) حظوة وحضور في الوسط الثقافي، هنا نقرأ المتنبي بعين الناقد ونطل على الناقد بعين أخرى.. ما مفهوم الآخر في شعر المتنبي تحديدا وهل يختلف عن غيره؟ إن مفهوم الآخر لدى أي شخص، شاعراً كان أم غير شاعر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الأنا المتكون لديه، سواءً في وعيه أو خارج وعيه. ومفهوم الأنا لا يتدخل في تكوين الشخص فقط، بل المجتمع الذي يعيش فيه والتاريخ الذي ينتمي إليه، أو بعبارة أخرى الثقافة التي ينشأ فيها الفرد تتدخل تدخلاً كبيراً في تكوين الأنا لديه، وبالتالي فمفهوم الآخر لا يتكون من عناصر ثابتة يمكن تحديدها، بل يرتبط بعناصر متغيرة لدى كل شخص، وبالتالي فهو متغير بالضرورة. هذا لا يعني أن صورة آخرٍ محدد لا يمكن أن تتكرر لدى أشخاص عدة، فالثقافة قد تصنع صورة نمطية لآخرٍ محدد ويظل المجتمع يتوارث هذه الصورة من دون أن يتساءل عن حقيقتها، كصورة الزنجي مثلاً التي ظلت ثابتة على مدى قرون من الزمن في مختلف المجتمعات والتي كانت تنظر للزنجي على أنه همجي بالطبع وصاحب طاقة جنسية خيالية كالبهائم. كيف تقرأ أنّا المتنبي المتضخمة؟ بما أننا نتكلم عن الآخر لدى المتنبي، فيمكن قراءة أنا المتنبي المتعالية كانعكاس للمجتمع المنحط، حيث المجتمع هو آخر بالنسبة للمتنبي. فقد عاش المتنبي في زمن الانهيار السياسي للدولة العباسية والانهيار الأخلاقي أيضاً، حيث الصراعات حول السياسة وما تتطلبه من غدر ونفاق وكذب وحيث الطبقة الممتلكة للسلطة المالية تسلب الطبقات الفقيرة بالظلم والاحتيال، وحيث الطبقات الفقيرة فاسدة أخلاقها بسبب الفقر والجهل، كل هذا ساهم في تكوين نظرة المتنبي المتعالية لنفسه والمحتقرة لمجتمعه الذي بات لا يرى فيهم إلا البهائم. هذا لا يُعفي المتنبي من اللوم، حيث هناك من الشعراء من عاش في نفس المجتمع ولم تتضخم أناه كالمتنبي، لكني أقول إن وضع المجتمع الفاسد كان أحد أسباب تضخم الذات الذي كان واضحاً لدى المتنبي منذ بداياته أي في قصائده الشابة، ولكننا لا يمكننا الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا التضخم لأننا لا نعرف إلا النزر القليل عن نشأة المتنبي في صباه. الذات العربية لدى المتنبي كيف كان حضورها؟ في فترة المتنبي كان للأعاجم سلطة قوية جداً داخل المجتمع العربي، سواءً من الجهة السياسية أو الاقتصادية، في حين أن النخب العربية لم تكن تبلغ في قوتها قوة الأعاجم وزاد من ضعفها صراعاتها الداخلية على السلطة وعلى المال، وكلنا يعلم وضع الخليفة العباسي الذي كان خليفة صورياً في ذلك الزمان، ولن نتحدث عن الشعوب العربية التي كانت فقيرة ومهانة وجائعة ولا تفكر إلا في العيش. هذا ما جعل من المتنبي صاحب عصبية عربية شديدة ضد الأعاجم، الذين كان يحتقرهم ويكرههم ويتمنى أن تزول دولتهم ويراهم داءً في جسد الأمة العربية يجب إزالته، ولكن ذلك لم يتحقق في زمنه. هذا ما جعل من الفترة التي عاش فيها مع سيف الدولة العربي الذي كان يقاتل الأعاجم ويُعلي من شأن العرب بقوته أجمل الفترات التي عاشها المتنبي والتي قال فيها أجمل قصائده والتي تحسر عليها كثيراً بعد فراقه سيف الدولة. ملامح الوحدة والغربة في شعر المتنبي إلى أين تغدو، هل للتأمل والتدبر أم هي موضوع للشعر؟ كما لمحنا، فذات المتنبي المتضخمة إضافة للوضع المجتمع المتردي الذي كان المتنبي ينأى بنفسه عنه، جعلا المتنبي يعيش غربة داخلية هائلة تحولت مع تضخمها إلى موضوع شعري استطاع المتنبي بشاعريته المتميزة أن يكتبه بوعيٍ عميق وعاطفة متقدة، فكانت أبياته التي يتحدث فيها عن غربته وعن صراعه مع الدهر وحيداً من أجمل الأبيات في الشعر العربي، التي أرى أن الدراسات النقدية لم تفها حقها، ومن بينها دراستي التي لم يسمح لي موضوعها بأن أستطرد في هذا الجانب كثيراً. حدثنا عن حضور المرأة لدى المتنبي، هل كان يملك رؤية مغايرة تجاهها؟ يرى كثير من الناس المتنبي مثالاً للشاعر الكذاب الذي لا هم له سوى جمع المال من الممدوحين، فهو شخص بغيض ومغرور وبخيل ومنافق يتاجر بقصائده، وقد أعطي موهبة شعرية، وفي هذا خطأ وظلم . أما أنا فأرى فيه مثقفاً جاداً بالنسبة لذلك الزمان - من خلال دراستي - وشاعراًً ذا وعيٍ عميق، وكان ذا هم سياسيٍّ كبير وهذا ما لم يلتفت له إلا القلة من الدارسين. ومن كانت هذه حاله فمن الطبيعي أن تحتل المرأة حيزاً صغيراً جداً في حياته، ولذلك فالمرأة بشكل عام حضرت في شعر المتنبي بصورتها النمطية المتجذرة في المجتمع الذكوري آنذاك. نستثني من ذلك شعره في جدته وفي خولة أخت سيف الدولة. ترى ما السر الحقيقي في عدم ذكر المتنبي لأبيه ضمن أشعاره؟ الأجوبة التي طرحها النقاد كثيرة ومتباينة ويُبطل بعضها بعضا بشأن أب المتنبي ونسبه. وسبب ذلك هو غموض هذه المنطقة من حياة المتنبي، وقد كان المتنبي كما نفهم من أشعاره وبعض الروايات التاريخية متعمداً في إخفاء نسبه، ولا أحد لحد الآن استطاع أن يحل هذا اللغز، فكل ما يطرحه النقاد هو مجرد ظنون، حتى نسبه الذي شاع في ترجماته وهو أحمد بن الحسين الجعفي، هو ظن شائع وليس حقيقة تمتلك برهاناً. ما نحن متأكدون منه فقط هو أن اسمه أحمد. احتوى كتابك النقدي'الآخر في شعر المتنبي' على ديوان خاص مرفق بالكتاب سميته 'مرايا المتنبي وجه شعري لكائن فلسفي' ألا ترى أنك ظلمت هذا الديوان في إصدارك إياه بهذه الصورة؟ ربما أثر ذلك في انتشاره قليلاً، لكني لا أتوقع له انتشاراً كبيراً حتى لو طبعته منفصلاً، فالشعر يعيش حالة كساد بشكل عام، ودور النشر تتهرب من تبني طباعته لأنها تعلم أن الإقبال عليه سيكون قليلاً. وكما ذكرت في مقدمة الكتاب فالذي دفعني لطباعتهما جميعاً هو أنهما تجربة واحدة يكملان بعضهما البعض ويضيئان بعضهما البعض، وهذا في صالح الديوان معرفياً. كنت أقرب إلى قراءة المتنبي نفسيا وروحيا، فحاكيت قبيلته، أخت سيف الدولة، خولة، طفل سيف الدولة، كافور، ومرايا أخرى للمتنبي، ما الذي أراده الخباز الشاعر في إهدائه ديوانه:' إلى (آخري) الذي أراه كلما نظرت فيك، يا أبا الطيب؟ لقد تربيت شعرياً في حضن أبي الطيب، وإن كنت الآن قد سلكت مسلكي الخاص ونضجت تجربتي بعيداً عنه ولبست ثوباً حديثاً، لكنني كنت وما زلت أرى في أنا المتنبي بهمومها وقلقها وعذاباتها شيئاً من أناي، ولذلك فمرايا المتنبي بقدر ما تعكس من المتنبي فهي تعكس مني أيضاً، وربما كانت في بعض النصوص تعكس مني أكثر مما تعكس من أبي الطيب، فأناي وأناه متداخلتان في هذه المرايا المتداخلة هي أيضاً، ولذلك فلا أحد يعلم أين أنا وأين المتنبي في هذه النصوص حتى أنا.