مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تستعرض جهودها في ترجمة الثقافات العالمية عبر 12 لغة    وزير الداخلية يدشن المبنى الجديد للمديرية العامة للأمن العام بالرياض    تقني عسير يدشن مبادرة لتدريب السيدات على صيانة السيارات    "وقاء الشرقية" يقيم فعاليات بالتزامن مع اليوم العالمي للسعار للتوعية بالمرض وفق نهج الصحة الواحدة    أمير الشرقية يطلع على تقرير أعمال غرفة حفر الباطن    نائب أمير تبوك يستقبل مدير العيادات الشاملة التخصصية لقوى الأمن بالمنطقة    الخريف يُشارك في اجتماع الطاولة المستديرة ويعقد اجتماعات ثنائية مع كبرى الشركات الأمريكية    جايكو 7 تعيد تشكيل مستقبل السفر في السوق السعودية بتكنولوجيا ذكية وتصميم متفوق    في أول ضربة داخل بيروت.. مقتل 3 قياديين فلسطينيين بهجوم إسرائيلي    محافظ سراة عبيدة يرعى حفل اليوم الوطني السعودي ال ٩٤    أمانة القصيم تجري تجربة افتراضية لتعطل محطة ضخ السيول بمدينة بريدة    25 ألف فرصة سكنية جديدة في معرض مشاريع الإسكان بالدمام    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للقلب"    "مجلس الشورى" يعقد اجتماعها الأول من أعمال السنة الأولى للدورة التاسعة    تحت رعاية خادم الحرمين .. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تنظم المؤتمر الثالث عن تاريخ الملك عبد العزيز يناير المقبل    الأهلي ينشد الصدارة ب «الوصل»    لمسة وفاء من أبناء جازان.. عبدالعزيز بن علي الهويدي    الأمم المتحدة : 100 ألف شخص فروا من لبنان باتجاه سوريا    الاتحاد الأوروبي يقدم 10 ملايين يورو مساعدات إنسانية للمتضررين في لبنان    الطلاب يتوافدون على معرض الرياض الدولي للكتاب    منسقة الأمم المتحدة : دعوات وقف إطلاق النار تظل دون استجابة في لبنان    رابطة العالم الإسلامي تُشِيدُ بتقديم المملكة مُساعدات طبِّيَّة وإغاثيّة للشَّعب اللبناني    استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    العنف المبني على النوع الاجتماعي كيف نواجهه؟    ضمن الجولة الخامسة من دوري يلو.. قمة تجمع الحزم والعدالة.. والجبلين يستقبل الزلفي    أسبوع عمل من أربعة أيام    الأمم المتحدة تشيد بالجهود الإنسانية للمملكة في تخفيف معاناة المتضررين في العالم    «ناديا».. روبوت محترف في إنجاز المهام    آيفون ثلاثي الطي في الطريق قريباً    «الموارد»: اعتماد قواعد لائحتي المنشآت والبرامج الاجتماعية والمهنية لذوي الإعاقة    «تراضي»: إصدار 370 ألف وثيقة صلح.. وعقد أكثر من مليوني جلسة    توصيل الطلبات.. والمطلوب من مرور جدة    مركز إدارة الحي    المملكة.. تحالف لنصرة فلسطين    الاتفاق يفرض التعادل على التعاون في دوري روشن للمحترفين    الأوركسترا السعودية تختتم روائعها في لندن وتستعد للانطلاق إلى طوكيو    أحمد عطية الأثري.. قاضي الكويت.. الشاعر والخطاط والرسام    الغنام يدشن معرض «وطن يسكن القلوب» بمكة    يكفيك أن يصفق لك أحدهم بيديه    رحلة غامرة عبر الزمن.. «لحظات العُلا» تطرح تذاكر مهرجان الممالك القديمة    محافظ الطائف يطلع على برامج المدينة الصحية    منتخب التايكوندو الشاب يخوض الصراع العالمي    الأخضر السعودي الشاب يتأهّل لنهائيات كأس آسيا 2025    علِّموا الأبناء قيَّم الاحترام والامتنان    الصداقة    نفى أي نية لإلغاء البطولة.. الفيفا يعلن تفاصيل مونديال الأندية 2025    تشغيل غرفة للعمليات جراحية بمركز العويضة للقدم السكرية ببريدة    تغريم 3 شركات طيران خالفت نظام المراقبة الصحية في منافذ الدخول    اكتشاف خلايا خفية تساعد في التئام الجروح    الامتيازات التنافسية لمياه الشرب المستوردة    اللبننة مجدداً.. أو الفوضى الخلاقة!    لجنة عاجلة لكشف ملابسات الازدحام في أحد مقرات «الشؤون الإسلامية» بالرياض    فبركة مقاطع الذكاء الاصطناعي !    جندلة    حزين يا صديقي أكثر من اللازم !    «نحلم ونحقق».. أيقونة وطن!    أمير الشرقية يتسلم تقرير اليوم الوطني    الزواج التقليدي أو عن حب.. أيهما يدوم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتنبي : العمل الكلاسيكي
نشر في الحياة يوم 13 - 03 - 2002

انتعش الحوار اخيراً عن المتنبي، مثلما انتعش مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين. فبعد ان أصدر ادونيس "الكتاب" بجزءيه، مكرساً للمتنبي أو مستوحياً إياه، وبعد ان أصدر كمال أبو أديب "عذابات المتنبي"، بدأ الهجوم المعاكس عليه، فوصمه عبدالله القصيمي بأنه نموذج للعنجهية البدوية الساقطة، وتابعه فوزي كريم بأن تجربة كثير من قصائد المتنبي كاذبة، لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية. أما عبدالله الغذامي فلم يتردد في القول إن المتنبي "شحاذ كبير".
بصرف النظر عن طبيعة هذه الأوصاف الأخلاقية، ومدى علاقتها بالتقويم الجمالي لنصوص المتنبي، فإننا نودّ ان نسأل: هل في نصوص المتنبي ما يشجع على إصدار هذه الأحكام؟ ولماذا؟
نحن نعرف ان الأدباء، بعد مقتل المتنبي بجيل أو جيلين انهمكوا بالجدل حول شعر "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، فتصيّد بعضهم سرقاته الشعرية من شعراء آخرين، بينما قرأ بعضهم الآخر مدائحه لكافور بصفتها اهاجي، أو أبياته الحكمية في ضوء فلسفة أرسطو. ومثلما يحصل الآن، فقد حصل في السابق تداخل بين شعر المتنبي وشخصه، بفعل تضليل فني مارسه المتنبي نفسه. وليس من شك في ان التضليل الفني غير التضليل الأخلاقي. لقد زرع المتنبي الغموض في طوايا نصوصه الإبداعية فصارت تقبل قراءات عدة وربما متناقضة. ونقتصر في هذه القراءة على ثلاثة انواع من الغموض، الذي يسمح بتعدد التأويلات، في شعره:
1- الغموض الدلالي: ينشأ الغموض الدلالي عن انقسام العلامة اللغوية الى دال ومدلول. ويسمّى انطواء العلامة على مدلولين متناقضين "التضاد". ويسمى انطواؤها على أكثر من اثنين باسم "الاشتراك". ولعلّ المتنبي من اكثر الشعراء العرب استخداماً للاشتراك اللفظي. فهو الذي يشكّل اساس الاختلاف بين الدارسين في شروح ديوانه الكثيرة. لو أخذنا، مثلاً، القصيدة التي يهنئ بها كافور الإخشيدي:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدَّني من البُعَداءِ
وأنا منك لا يهنئ عضو
بالمسرّات سائر الأعضاءِ
لقد استكثر النقاد القدامى هذا الكلام على المتنبي، ووجدوا فيه تطاولاً لا يليق بشاعر يمدح ملكاً. وكانوا يعجبون لقبوله منه. يقول ابن جني: "يقول انا منك فكيف اهنئك؟ هل رأيت عضواً من جملة الأعضاء هنأ سائر الأعضاء؟" الفسر 1/109. ويقول الواحدي: "أنا منك، أي أنا وأنت كإنسان واحد.
وإذا نال الإنسان مسرة اشتركت فيها جميع اعضائه...". ثم يقول: "وهذا طريق المتنبي يدعي لنفسه المساهمة والكفاية مع الممدوحين في كثير من المواضع. وليس ذلك للشاعر، فلا أدري لم احتُمل ذلك منه" شرح الديوان/ 631.
يتعلق الاختلاف بين الفهمين بالدال منك الذي فهم منه ابن جنّي معنى البعضية، وفهم منه الواحدي معنى المطابقة أو أنت. وقد وضع المتنبي شرطين للتهنئة: المساواة بين الأكفاء، والقرب بعد ابتعاد. ثم بيّن ان هذين الشرطين لا يتوافران فيه.
وإذ فهم الواحدي عبارة منك بمعنى المطابقة بين المادح والممدوح، فقد تعجب لقبول ذلك ممن يتوجه إليهم المتنبي بالمدح. لكنّ المتنبي ينفي التساوي، فهو يقول: "انا جزء منك، والجزء لا يساوي الكل ولا يكافئه، ولا هو ببعيد فيقترب ليستحق التهنئة، بل هو لصيق بالكل لا ينفصل عنه، فلا يجوز لي ان اهنئك. وهنا نجد منتهى الخضوع بدلاً من الكبرياء التي تصوّرها شراحه. والتناقض بين الكبرياء والخضوع امر متروك لتأويل دلالة منك. فإذا فهمناها بمعنى البعضية كان المتنبي خاضعاً ذليلاً، وإذا فهمناها بمعنى المطابقة كان المتنبي متكبراً مكافئاً لممدوحه.
2- الغموض التداولي: وهو غموض الجملة التي تحمل ضمناً أكثر من مستوى أسلوبي. ويبدو ان المتنبي كان يتعمد هذا النوع من الغموض، ويتعمد ايقاع شراحه بسوء التأويل. وغالباً ما يتعلق هذا الاضطرار الى سوء التأويل بقراءة تراجعية تقترح اعادة فهم العلاقة مع الممدوحين بأسلوب آخر. ويصرح المتبني بهذا النوع من الغموض قائلاً:
وشعرٍ مدحتُ به الكركدنّ
بين القريض وبين الرقى
فما كان ذلك مدحاً له
ولكنّه كان هجو الورى
ومعنى ذلك ان هذا الشعر الذي كتبته - وهو مدائحه السابقة لكافور - لم يكن مدحاً له، بل هو هجاء للناس وملوكهم لأنني جعلته افضل منهم. وهذه من دون شك قراءة بعدية لتبرير خطأ سابق. ولكن يبدو انها أثرت في نقاد المتنبي. فها هو ابن سيدة يذكر امكان قراءة مدائحه لكافور على وجهين: "وقلما مرّ له غريب بيت إلا وقد جمع مدحاً وتعريضاً" المشكل/316.
ويبلغ الجمع بين المدح والتعريض ذروته في الاستعارة العنادية التي يجمع فيها بين الظلام والضياء، أو الشمس والسواد في قوله:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم
س بشمس منيرةٍ سوداءِ
وهذا النوع من الاستعارة العنادية نادر في كلام العرب قديماً. ولعلّ أظهر مثال عليه هو ما تكرر في القرآن الكريم من الجمع بين البشرى والعذاب في آيات كثيرة: "وبشّرهم بعذاب أليم".
3- الغموض النحوي: وهو إمكان ان يكون للجملة اكثر من تحليل بنائي واحد. لو قلت: "كلام الرجل الطويل" فلن يعرف السامع هل المقصود بذلك الكلام الذي تكلم به الرجل الطويل ام الكلام الطويل الذي تكلم به الرجل. من ذلك، مثلاً، قوله:
رأيتك في الذين أرى ملوكاً
كأنك مستقيم في محالِ
يمكن إعراب ملوكاً مفعولاً به ثانياً، والمفعول الأول ضمير تقديره هم. كما يمكن إعرابها حالاً. وبذلك تسمح هذه الجملة ببنيتين عميقتين:
أ الذين أراهم ملوكاً هم ملوك حقاً.
ب للذين أراهم ملوكاً مظهر الملوك، وليسوا ملوكاً فعلاً.
والتتمة بالطبع، وأنت متفوّق عليهم في الحالين.
ويشيع هذا النوع من الانحراف، او العدول في شعر المتنبي. غير اننا نودّ ان نقتصر منه هنا على بنية الإضافة فقط، لمعرفة الكيفية التي يتعامل بها المتنبي نحوياً ودلالياً. يقول:
بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ
ومن أبقى وأبقته الحرابُ
ويقول:
ولذا اسم اغطية العيون جفونها
من انها عمل السيوف عواملُ
في البيت الأول أربع اضافات: بنو وقتلى وأبي والكاف.
وفي البيت الثاني ثلاث إضافات اسم وهو نكرة وأغطية والعيون.
لكنّ البيتين يتضمّنان قياساً منطقياً من نوع ما. في البيت الأول القياس هو: هؤلاء هم ابناء مَن قتلهم ابوك.
سبق لأبيك ان عفا عن ابنائهم
فينبغي لك ان تعفو عنهم مثله.
أما البيت الثاني فيتضمّن المقايسة الآتية:
اسم اغطية العيون الجفون
اسم اغطية السيوف الجفون
إذن فالعيون عوامل عمل السيوف.
غير ان شعر المتنبي ينفرد بظاهرة نحوية لم ينتبه إليها احد. وهي قلب كثرة التعريف بالإضافات الى تنكير. لقد ورد الجمع بين التعريف والإضافة في القرآن الكريم: "المقيمي الصلاة" الحج/35. فحذِف التنوين علامة على الإضافة، مع ورود صيغة اثبات التنوين: "المقيمين الصلاةَ" النساء/ 162 بنصب الصلاة على المفعولية. غير ان ترادف الإضافات يحوّل التعريف الى تنكير. مثلا ذلك قوله:
وما لكلام الناس فيما يريبني
أصول ولا للقائليه اصولُ
وقوله:
أنا من شدّة الحياء مريضٌ
مكرمات المُعلِّهِ عوَّادُهْ
في البيت الأول يقول: ليس في الكلام الذي يتقوّل به عليّ بعض الناس أصول، وليس لمن يقولونه اصول. لكنه عرّف القائلين ثم جعلها بين اضافتين: اللام والهاء، بعد حذف النون. أما البيت الثاني فمعناه ان كرم الممدوح أغرقه حتى صار مريضاً من شدة الحياء، مرضاً ليس له نظير، لأنه كلّما ألحّ عليه المرض واساه الممدوح بمكرمة، وهكذا فمرضه في ازدياد، وكرم ممدوحه في ازدياد. وقد جعل المعل مضافاً ومضافاً إليه ايضاً. ولكن ما وظيفة التعريف المزدوج هنا؟ يشير سيبويه في "الكتاب" 1/427 الى أن إضافة اسم الفاعل النكرة الى معرفة لا تزيده تعريفاً، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: "يا ربّ غابطنا"... يقول: "فربَّ لا يأتي بعدها إلا نكرة، فذلك يدلل على ان غابطنا نكرة". وإذا كان مثال سيبويه يتضمن درجة واحدة من التعريف، فإن امثلة المتنبي تضاعفه، وتزيد عليه، من دون ان تفيد التعريف ايضاً. وبالتالي فإن مضاعفة التعريف ب"أل" والإضافة معاً ستكون لها وظيفة معاكسة هي زيادة التنكير في ترادف الإضافات وتلاحقها الذي يتطلب جهداً من الذاكرة.
والآن لماذا أراد المتنبي ان يلغم نصوصه بكل هذا القدر من سوء الفهم؟ والجواب ببساطة انه اراد ان يكتب ما نسميه الآن بالعمل الكلاسيكي؟ فما العمل الكلاسيكي؟
لاحظ سايمون ليز وهو اسم مستعار لأستاذ الدراسات الصينية في جامعة سيدني، بير ركمانز مؤلف كتاب "ظلال صينية" ورواية بعنوان "موت نابوليون" ان الصينيين يختلفون في فهم كونفوشيوس الى حد التناقض. ولذلك ارتأى ان يقدّم لكتاب مقتطفات كونفوشيوس بقوله: "إن العمل الكلاسيكي في الأساس نص مفتوح النهاية، بمعنى أنه يعير نفسه باستمرار لتطورات جديدة، وشروح جديدة، وتأويلات مختلفة.
وتشكّل هذه الشروح والتأويلات والنظرات، بمرور الزمن، طبقات ورواسب وتراكمات وزوائد من الطمي، تتجمع ويتكوّم بعضها فوق بعض مثل الرمال والترسبات في الغرين الذي يقذفه النهر. فيسمح النص الكلاسيكي بأن ينتفع به وأن يُساء استخدامه، يسمح بالفهم وبسوء الفهم معاً، فهو نص يظل ينمو أبداً، فيمكن تشويهه وإثراؤه معاً. ولكنه مع ذلك يحتفظ بهويته الجوهرية، حتى لو لم يمكن استرجاع شكله الأصلي".
ولكي يدعم ليز وجهة نظره فإنه يستشهد ببورخيس: "إن الكاتب بعد موته يستمر بالتطور في عقول قرائه. لأن الكتاب يستفيد من مرور الزمن، وكل شيء يمكن ان يدرّ عليه بالفائدة. حتى سوء الفهم قد يعين المؤلف. كل شيء يمكن ان يعينه حتى تجاهل القراء أو إهمالهم". لكأنّ المتنبي كان يعرف انه سيعيش في عقول قرائه، في فهمهم وسوء فهمهم لنصوصه، حين قال:
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.