بينما كنت أقرأ ديوان الشاعر العراقي وليد جمعة الوحيد «الغروب النحيف» (دار الجمل) الصادر بعد رحيله بقليل تذكرتُ بما يشبه الاستحضار مرثية الشريف الرضي في ابن حجَّاج البغدادي والتي يقول فيها:»وما كنتُ أَحْسَبُ أنَّ الزَّمانَ/ يَفلُّ مضَارِبَ ذاكَ اللِّسان/ ليَبْكِ الزَّمانُ طويلاً عليكَ/ فقدْ كنتَ خِفَّةَ روحِ الزَّمان». حقاً كان وليد جمعة خِفَّةَ روح الزمن العراقي، إنه نسمة الفكاهة في سَموم التراجيديا المطبقة على كل الجهات، وهو بهذه الخفَّة التي لا تخلو من استخفاف بأولئك الذين جعلوا المنفى امتيازاً ومحفلاً للمداهنة والرياء، بينما هو في جوهره عناءٌ ممضّ للعُزَّل الحاملين الجمر، أحال جانباً من تراجيديا المنفى العراقي التي صدحت بها الجوقة زمناً طويلاً إلى كوميديا سوداء بفردية مشحونة بالنبذ المتبادل. وشعره يزهد بتلك الإشادة الرومنطيقية بتاريخ العراق من دون التمعُّن في حاضره المزري، ووسط حفلة متواصلة للتبجيل أو حتى للتأبين المبالغ فيهما، يسخر وليد جمعة من كلِّ شيء، من تقديس القضايا السياسية، ومن الأحزاب الثورية، من فكرة الوطن الحضاري، من الشعراء، والأصدقاء والأعداء معاً، أو «الأعدقاء» كما ينحت تسميتهم من نقائض الزمن العجيبة. شاعر وعصر قد يبدو عنوان «الغروب النحيف» كناية مناسبة عن التكوين النفسي والجسماني لوليد نفسه، وللعصر الذي عاشه، فهو ينتمي إلى الغروب ولم يكن في أية مرحلة من مراحل تجربته باحثاً عن مكان تحت الشمس المتاحة للجميع! وهو المشاغب بنحوله الجسدي الملائم لتلك الخفَّة حيث الظرف البغدادي، الكرخي تحديداً، المختلف وغير المؤتلف مع محيطه، وهو من ندرة ظريفة من الشعراء لهم امتداداتهم في الشعر العباسي أولئك الذين استحقوا توصيف «حِلية الأرض ونقش الزمان» حيث تسبقهم نوادرهم وأخبارهم، قبل نصوصهم وأشعارهم، وكان وليد جمعة حِليةً في أرض أخرى ونقشاً خفيفاً على وجه زمان المنفى، تماماً كبقايا ذلك الوشم الطفولي الباهت على أرنبة أنفه. نصّه في الحياة مبعثرٌ كسيرته، ونصّه الكتابي يقصر، على رغم اجتهاده، عن مجاراة تلك النوادر والأخبار المنتشرة من بغداد إلى بيروت وعدن ودمشق، حتى البلدان الاسكندنافية. سخريته لا تخلو من نرجسية، وهو يستذكر المتنبي في عنفوانه، ويحرِّفُ عجز بيته النرجسيّ الشهير: تغرَّبَ لا مُستعظماً غيرَ نفسِهِ/ ولا راضياً (إلا) لخالقِهِ حُكما، معلناً خروجه ومروقه على كل شيء تقريباً. ويرسم وليد بورتريهاً شخصياً لمروقه وانشقاقه في أكثر من مكان في الديوان: «مائل الكتفينِ غرَّا/نافراً عن كلِّ ما يُبهجُ في هذا الزمانْ/ واسمُهُ/ لو يشبرُ الشِّعرُ مَدى الرؤيا: وليدُ المشهداني» وفي صورة تقريبية أخرى: «أيْ عِراقيّ/ عتيق البيت وابن الطَرَفِ الذاوي/ فتى الدربونَةِ الكسلى/ وكرخيّ الجَسَارة/ حيثُ لا يبرعُ حتى في الولاء./ عندما داهَمهُ الحزبُ الفلانيُّ/ بعدَ تفتيشٍ دقيقٍ في النخاعِ المستطيل/ لم يجدْ فيه سِوى مدمنِ أفيون/ أو جاسوسِ سَفارة» والواقع أن حضور المتنبي يكاد يكون العلامة الفارقة الوحيدة في شعره التي تخلو، ظاهرياً، من السخرية، لكنه حتى في استدعائه المتنبي فإنما ليوظفه في السخرية مما سواه. ولعلَّ من المفيد الإشارة إلى أنه اختار في وقت سابق عنواناً لديوانه من جملة للمتنبي نفسه «أرجان أيَّتُها الجياد» وقد اطلعت عليه في بدايات التسعينات، لدى الصديق طالب الداوود، الذي كان ينوي نشره ضمن مشروع دار للنشر سرعان ما توقفت كشأن الكثير من مشاريع المنفى العراقي، ولا أدري ماذا حلَّ بذلك الديوان. وعدا ذلك لا يتمتع شعر وليد بالديباجة المحكمة لشعر المتنبي، بل على العكس تبدو صياغاته، غالباً، مزيجاً غير متناسق من بلاغة الفحول، وعبارات السُّوقة. هذا الخليط الغريب وغير المألوف بين رصانة التراث، ورذالة العامي، أقرب إلى الشعر الملمَّع الذي يجمع بين شطر من الفصيح وآخر مع العامية في بيت واحد، لكن التلميع لدى وليد ليس افتناناً بأصول هذا الفنّ الشعريّ الهجين، وإنما هو تعبير عن نزوع كياني لديه. أنه يكتب بالحداثة ويسخر منها، يكتب بالوزن ويضيق به، والتلميع لا يخلو هو الآخر من ظرافة المفردة سواء في طبيعتها أو دلالتها الأخرى ويحفل الديوان بالكثير من تلك المفردات والعبارات من قبيل: «لَكْ يا وطني، دوخة الناس، زعل الوحي، العبئريون سيرثونني، تصفن الساعات، نشوف الناس، مرات على الجفلة، ما الذي خربط هذا الطير، يستاهل ام خطية، العربنچي....». هذا التطويع للهجة البغدادية العامية في أوزان خليلية، يخلق المفارقة الكلية الصادمة، ويجعل من تعارض الشكل والمضمون كوميديا نافرة بوضوح مثلما يكسر الوزن الشعري عامداً بمفردة تخلق مفارقة تهكمية جارحة تجمع بين الظُرف والمأساة:«أيُّها الشرطيُّ الفطيرُ الذي لم يَعُدْ بُعبعاً/ أتاكَ الخرابُ/ وراحتْ عليكَ/ فقدْ جاءَ عَصرٌ عصيٌّ على المتداركِ يُدعى: الْمُخابرات!» شاعر الهجاء إلى جانب السخرية يتواشج الهجاء، في تشكيل العالم الشعري في «الغروب النحيف» هجاء بلا هوادة وعلى كل الجهات: الحزب، الوطن، الشعب، الأصدقاء، وصولاً إلى الشقيق والذات. هجاء ينتشر هنا وهناك، لكنه يبلغ ذروته في قصيدة «تساؤلات غير مشروعة» حين يستحضر معجماً زويولوجياً من ابن المقفِّع وأورويل واصفاً الحالة العراقية في زمن مضى ولم يمض تماماً، ويحشِّد أسماء الزواحف والقوارض والحشرات والمفترسات ليتحدث عن شعراء ملفقين وزعماء أحزاب بالصدفة وصحافيين للبيع والإيجار ورجال دين يتجرون بالمواعظ، ونساء مسخنَ من أنوثتهنَّ: «العراقيُّونَ في المنفى/ أَجِبني يا إلهي/ أتراهُمْ بَشرَاً كالخلْقِ أم مسخُ بَشَر؟» وعن العراق يكتب مستريباً: «ما العراق؟ جبلٌ أمْ حَدَأة؟/ أمْ بقايا جثَّةٍ بينَ الصخور الصدِئة/ أصحيحٌ إنَّهُ أرضُ النفاقْ؟/ أمْ مريضٌ بالرِّئة..؟» هجاء مرير هو نوع من التنكيل الذاتي، فوليد لا يسعى بالنميمة، أو ينمَّ بها في الخفاء، إنه يتحاشاها إلى الشتيمة فيجاهر بها، ويترنَّم بشتائمه علانية، وإذا كان شعراء الهجاء المشهورون في التراث، وهم ينكِّلون بخصومهم، يفتخرون عليهم، بالمقابل، بانتسابهم إلى جماعة ما، أكثر شأنا ورفعة، فإن وليد جمعة لا يفتخر بشيء! إنه يهجو الجميع: الذات والجماعة، فهو من أولئك المخلوعين المنشقين: «شاعرٌ ينحتُ الصَّخْرَ /والصَّخرُ ألينُ منهُ/ وآخرُ يغرفُ من بحرِ أغيار/ خالدينَ وَمَوتى/ وثالثُهُمْ: قُرويٌّ وُصوليٌّ، وكُحوليٌّ/ وماركسيُّ الميول، وسَفيهٌ مع النساء، ويأكلُ خِفْيَة/ هذا زمانُكَ يا أعورَ العينِ/ ونحنُ هوى دُونما لغة/ تَرَكنَا القصاصةَ للقَاصرينَ/ عَبَرنا المفازةَ زارعينَ المدى/ بفارزةٍ وزُحافٍ وإقْوَاء!» على أن هذه البلاغة السيكوباثية الواضحة في شعر وليد جمعة في المنفى، لها جذورها من التمرد والاحتجاج في نصوصه المكتوبة داخل العراق، ففي السبعينات عندما ازدهرت ظاهرة المصارع عدنان القيسي بالتوازي مع ظاهرة القاتل المتسلسل «أبو طبر» كانت أجهزة السلطة تعاقب الشباب في شوارع العاصمة بحلق الشعور الطويلة علانية، وطلاء ما يظهر من سيقان الفتيات يدوِّن وليد جمعة تلك اللحظة على لسان العربنچي: «عدنانُ القيسيُّ عذرٌ مقبولٌ لِمُخالفةِ السَيرَ./فأنتَ ترى مثلي أنَّ القانونَ يجزُّ الشَعْرَ ويلوِّنُ سيقانَ النسْوَة». وبينما تضمنت المجموعة معظم قصائده المنشورة في «مواقف» في السبعينات، أو في «السفير» و «رصيف» في الثمانينات، إلا أنها أغفلت قصائد أخرى وهذا أمر طبيعي مع شاعر مبعثر النص والسيرة كوليد جمعة. وقد أشار الناشر، الأشعر خالد المعالي، في كلمته عن ظروف ماراثونية ومعقدة لجمع قصائد الشاعر في حياته، ومن بينها تلك القصيدة التي كتبها عشية الاحتلال الأميركي للعراق، وأعاد قراءتها عليَّ في مقهى الروضة - دمشق، في آخر زيارة له، وهو في طريقه عائداً إلى مأواه في «دار للعجزة» بالدنمارك. بعد زيارة أخيرة محبطة لبغداد. فبينما كان المستبشرون عشية الاحتلال يطلقون «حمامات» احتفالات مبكرة، كان وليد «غراب النبأ السيء» وهو يطلق صوتاً آخر، يبدو نشازاً! أو على الأقل، خارج سرب الحمام:»قَسَماً بمهدِ للحضارةِ / صارَ مقبرةً وطوفاناً من الدمْ/إني لأجزمُ لو مضى «صدامُ» سوفَ يجيءُ أصدمْ». وليد جمعة تجسيد لا يضاهى لنموذج الشاعر المنشقّ عن كلِّ ما حوله، لم يعبر عن تذمِّر عادي، بل عن صِدام ومواجهة مستمرين، يعمد إلى الحطّ من العلياء المزعومة للأشخاص والرموز بالنكتة، مسرف في التبغدد، وهو يطلق من أعماقه الغاضبة عاصفة من شَررٍ يلاحق البالونات فيفجِّرها بينما ينزوي مُقهقهاً كأنه يبكي.