يكمن مشكل المتنبي - شخصه وشعره - في قراءته نمطياً ضمن شعرية سائدة تتبوب وتتنضد في أغراض وموضوعات تؤدي معاني ودلالات تقليدية، وضمن صلة متخيلة بين الشاعر وممدوحيه تلخصها التبعية والتصاغر، فيما يقترح المتنبي نفسه أن يُقرأ لا على مثال أو نموذج، كما أن صلته الندّية بممدوحيه تقترح صورة أخرى لشاعرٍ قلقٍ لا يستريح ولا يهدأ بما يرضى به الناس ويستريحون. وفي القليل الذي يُنسب الى المتنبي من تفوهات وأقوال خارج متنه الشعري تتضح خصوصيته - المشكلة، فقد صرّح بضجره من الإقامة مستقراً في مكان، وقال: إنه ملقى من هؤلاء الملوك الذين يعطونه عرضاً زائلاً مقابل النفيس الذي يمنحهم إياه شعره، كما يقيدونه من الترحال والتنقل. ولما كانت له ضجرات واختيارات كما يسميها، فإنه يضطر إلى مفارقتهم على أكره الوجوه وأقبحها. تلك الضجرات والاختيارات هي التي سقطت من برامج قراءة المتنبي المتعاقبة، فتسلط الضوء على أناه المتضخمة، أو تقلباته من مدح الشخص إلى هجائه بشدة، وحماسته في الحالين، والإلحاح في طلب الجاه والمال، أو الطموح المسرف في أخف الأوصاف - وما يتبع ذلك من تفسير شعره وإدراجه نمطياً بتسطيح أبنيته ودلالاته. تلك الفرادة ستدفع ثمنها النصوص التي فات قراءه ما فيها من مخبوء ومسكوت عنه، فهو شاعر حرب وفروسية كما تقدمه القراءات المدرسية، فيما نستطيع الاستدلال على أنه شاعر سلم بامتياز ليس فقط في لوحته الوصفية لشعب بوان وشكوى حصانه من مفارقة هذه الجنان إلى الطعان جرياً على معصية آدم ووراثةً له في مفارقته الجنة، بل في تصويره لبشاعة الحرب حتى في حالة النصر، فقلعة الحدث البيضاء المسقية بالغيم السخي تعود حمراء من دم القتلى بعد أن نزل بها سيف الدولة:"سقاها الغمام الغرّ قبل نزوله/ فلما دنا منها سقتها الجماجمُ". وإذا كان الممدوحون يغترون بقوتهم، فإن الموت يقهرهم في قصائد المتنبي، لأنه يصول بلا سيف ويمشي بلا قدم كعدوٍ لا مرئي يفوق قدراتهم، بل هو ينوب عنهم في قهر أعدائهم ويسلبهم نشوة النصر عليهم:"فما لكَ تختار القسيَّ وإنما/ عن السعد يرمي دونكَ الثقلانِ". وهكذا يتوقف عند الغزل مترفعاً يطلب الوصال من المرأة قبل أن يتحول حسنها بالموت ويلوم العشاق مراراً لأنهم لم يتفكروا في مصير من يحبون ومنتهى أمرهم بالموت. المرأة والحرب والإقامة في وطن أو أسرة أو بلاط هي بعض مشكلات المتنبي التي لم تترسخ كمفاتيح لقراءةٍ توائمُ تناقضاته الظاهرية أو تفسر شعره بهدي ضجراته واختياراته التي كانت وراء غربته وغرابته وتغريبه. * شاعر وناقد عراقي