إذا كان المتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس قبل ما يزيد عن الألف عام في جغرافيا شائكة وملتهبة، فها هو من جديد يشغل الأوساط الثقافية والإعلامية في دبي طوال أيام عبر الرؤية الجديدة التي قدّمها الفنان المخضرم منصور الرحباني كاتباً ومروان الرحباني مخرجاً. فالعرض قدم في مستوى اخراجي فاجأ الحضور معتمداً التقنيات الفنية ما بين ديكور ومجاميع وإضاءة وأداء درامي أوبرالي تخللته حوارات شعرية ورقصات تعبيرية وأغان مختلفة، اضافة الى المسرح الضخم لمدينة دبي للإعلام... انه عمل يليق بشاعر إشكالي عاش في عصر عاصف وجغرافيا التهبت من جديد فامتلأت بالمنازعات الداخلية والحروب مما دعا الأعداء للضغط الدائم والمتواصل على الثغور أملاً في استعادة تاريخ استعماري أفل. وندر من بين الحكّام المنشغلين بأنفسهم من جهز جيشاً للدفاع عن هذه الثغور باستثناء "سيف الدولة" البطل الاستثنائي الذي جمع من غبار المعارك التي خاضها لبنة من طين أوصى أن يتوسدها بعد موته. وخلال مسيرته تلك سيقصده أبو الطيب المتنبي الشاعر الذي لا يقل عنه شجاعة ومعرفة وطموحاً، ولا يقلّ عنه رغبة في مجابهة الضعف والظلم والثورة على الفساد، فيؤرخ معاركه شعراً، ليقدّم فيه مدائح عظيمة اختلف النقاد في قراءتها كثيراً. فآثر منصور الرحباني أن يقدّم قراءته الجديدة لهذه الشخصية الفذّة في ملحمة جديدة اسمها "أبو الطيّب المتنبي"، أدّاها ممثلون قديرون جاء في مقدمهم الفنان غسان صليبا الذي أدى دور الشاعر المتنبي بإتقان باهر أعاد للأذهان تلك الصورة المشرقة عن الشاعر وروحه المتعالية الأبية. بينما قام الفنان جمال سليمان بدور سيف الدولة الحمداني بكلّ ضروب الفخر والروح العربية المتصدية للغزو الأجنبي، والذي يليق به فعلاً قول المتنبي: وقفت وما في الموت شكّ لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضّاح وثغرك باسم في الوقت الذي أدت كارول سماحة دور الأميرة "خولة" أخت سيف الدولة، لكي نستعيد لحظة غرامية درامية توهّجت ذات لحظة بين جنبات قصر سيف الدولة، أو على شرفات قلعة حلب التاريخية. فنعيش لحظات رائعة بفضل الحوارات الغنائية المحمّلة بدلالاتها الغنيّة، لتشيع قصّة الحبّ بين الأوساط المختلفة، فيرتبك سيف الدولة، فهو من جهة يحبّ شاعره، ومن جهة أخرى لا يريد لهذه العلاقة أن تظلّ شغل الناس الشاغل فأمر بإبعادها الى ميافارقين وليغادر المتنبي حلب متجهاً الى مصر والغصّة تملأ فؤاده. في مصر سيمثل الفنان صباح عبيد دور "كافور الإخشيدي" باقتدار كبير مستفيداً من قدراته الصوتية للتعريف بهذه الشخصية التي ظلمت كثيراً لبيت من الشعر قاله المتنبي فيه على حدّ تعبير شاكر مصطفى، وفي مصر سيعكس النص جانباً من حياة اللامبالاة والترف واللهو إمعاناً في التصعيد الدرامي الذي يتعارض كلياً مع توجّهات الشاعر، فيدرك البون الشاسع بين شخصيتي "سيف الدولة" و"كافور"، ويدرك أيضاً حجم الورطة التي ورّط نفسه بها، ليترك مصر بعد صراع نفسي مرير نحو بغداد وشيراز، مقتحماً عباب غربة جديدة بعدما خلا من الصديق والمثل الأعلى، فصار صديقاً للقلق الدائم لتأتيه أخيراً رسالة من سيف الدولة يدعوه فيها للعودة، فكان أن كتب القصيدة الخالدة: كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل في وعي جديد ومفارق، وفي قدرة كبيرة على صوغ اللحظة العاطفية لشاعر وجد في ممدوحه نفسه، فيختلط المديح بالتعبير عن الذات ويتحدان في بنية عضوية خلاّقة. الفنان بول سليمان سيؤدي بامتياز بدور "فاتك الأسدي" بملامحه القاسية وثوبه الأسود وصوته القوي ومعه يبدأ فاصل الموت التراجيدي عبر مشهدين لا يمكن نسيانهما. وأولهما موت الأميرة خولة التي تقضي في "ميافارقين" كمداً على فراقه، ليكتسي المسرح غلالة بيضاء في دلالة على موت نبيل مثّلته تكوينات بشرية بملابس بيضاء على الجدران والزوايا، مؤكدة ان حزناً كبيراً عصف بالمكان، فعزّز الإخراج هذا الجانب من خلال الإنارة والمجاميع لتبدو جميعاً كزهور اقتطعت رؤوسها، فيذكرنا كلّ ذلك بمرثية المتنبي الرائعة "طوى الجزيرة حتى جاءني خبر...". أما مشهد الموت الثاني في ختام المسرحية، فهو المشهد التراجيدي لموت المتنبي بعد مقتله على يد فاتك وتتصاعد الأنغام الجنائزية وتحتشد الجموع بالثياب السوداء بينما يتقدم من ركن من أركان المسرح حصان أبيض عليه ثوب أحمر هو ثوب الشاعر نفسه في إحياء واضح على الموت الفجائعي المملوء بالدراما... أما على الصعيد الفكري فإن إسقاطات النص على الواقع المعاصر جاءت غنية بدلالاتها، ولا سيما ان شخصيتي المتنبي وسيف الدولة قدّمتا كرمزين لحال صراعية بين محدودية القدرات ولانهائية الآمال، وما توديه هذه اللحظة من عنف وقوة لتبلغ بالدراما الى حدها الأقصى: إما الموت أو الانتصار وذلك هو سرّ العظمة الخالدة...