على مشارف الثمانين من عمره، يفرج شيخنا الناقد والباحث والمؤرخ إحسان عباس عن "مجموع" أشعار مضى على كتابته إياها أكثر من خمسين عاماً، معلناً - إجابة على سؤال "لماذا ينشر هذا الشعر بعد مضيّ كل هذه السنين"، خصوصاً وأنه لم يُنشر من قبل لا في الصحف أو في المجلات - "أقول مجيباً انه لم يمرّ بي وقت اعتقدت فيه أن هذا الشعر أدنى مستوى مما نشره أكثر أبناء جيلي من الشعراء، وأن مرور الزمن نفسه لم يشككني في صلاحيته للنشر أبداً..."، ويذكرنا شيخنا بأن على القارىء أن يتذكر "انتماء هذا الشعر الى المرحلة الرومنطيقية قبل ظهور الشعر الحديث..."، فإذا تذكر القارىء هذا الأمر، وجد نشر هذا الشعر - وكتابته من قبل - شيئاً طبيعياً مقبولاً. أما إذا لم ينجح هذا التعليل في رأي البعض، فإن "هذه تجربة لا يضرّ فيها الاخفاق كثيراً بعد فوات الأوان". بهذا الاعتذار، للنفس أولاً، وللقارىء ثانياً، ينهي إحسان عباس تقديم ما يدعوه ب"المجموع" الشعري، هذا التقديم الذي نقرأ فيه روح وثقافة ووعي وشخصية ناقدنا الفذ، قبل أن ندخل الى أشعاره التي سنجد فيها عناصر تكوين شخصية إحسان عباس فيما بعد. ففي أشعاره - كما في مقاطع من سيرته "غربة الراعي" - ثمة ملامح من ذلك الشاب القروي، سنحاول قراءتها في شيء من الصدق والتفصيل، دون أن ننسى أننا أمام تجربة شعرية هذه المرة. كتبت هذه الأشعار التي يضمها كتاب "أزهار برية" دار الشروق، عمان 1999 بين عامي 1940 - 1948، على أثر تخرج صاحبها مع الكلية العربية في القدس، حيث كانت مرحلة الدراسة والتخرج هذه 1937 - 1941 بالنسبة اليه "تعني إعداداً ثقافياً موسعاً وتربوياً نظرياً وعملياً، وكان رأسي حين غادرتها مليئاً بتاريخ اليونان والرومان والأدب اللاتيني والأساطير المتصلة بكلا الأدبين، وفلسفة أرسطاطاليس وأفلاطون وغيرهما، وبالشعر الإنكليزي في القرن الثامن عشر والشعر الإنكليزي الرومنطيقي وبما حفظته من شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري والموشحات الأندلسية". من هذه الخلفية الثقافية والمرجعيات الشعرية تشكلت عناصر أساسية في تجربة شاعرنا، غير أن قارىء أشعاره لن يلبث أن يرد هذه التجربة، في محاورها وعناصر تكوينها الأولية، الى مرجعية أشد حضوراً وتأثيراً، ألا وهي البيئة الأولى، بما تتضمنه من عناصر المكان والتربية والعلاقات، والكيفية التي تشكلت شخصية الشاعر بها، إذ يغدو في الإمكان القول بأن شعراً كهذا لا ينتج إلا عن هذه الشخصية تحديداً، أو أن شخصية كهذه لا تنتج إلا هذا الشعر - وبحسب هربرت ريد الذي يرى أنه "على أساس طبيعة شخصية الشاعر ينهض صرح شكله الشعري". إذا كان يصعب على الشعر عموماً أن يكون مرآة صافية تعكس شخصية الشاعر، حيث يمكن للتخييل ولشطحات النفس والروح أن تبتعد عن واقع الحال، فإن شعر إحسان عباس ينطوي على الكثير من ملامحه الأساسية، ولكن سيرته الذاتية، وكذلك تقديمه لأشعاره، تؤكد وتوضح الكثير مما يشعر به قارىء هذه الأشعار. أول ما يواجهنا من شخصية الشاعر، بعد قراءة قصائد هذا "المجموع"، هو عنصر القلق الذي يجعل كل ما حول الشاعر مثار أسئلة وتوترات. ثمة قلق وجودي أولاً، وقلق خاص بشخص ينتمي الى بيئة معينة، قلق تثيره قراءات وتجارب حياتية، فيدفع بالشخص الى مواقع الشك والتوتر واللايقين. القلق الذي يوجع روح الشاب ونفسه هو قلق العلاقة بالمرأة أولاً، وقلق العلاقة بالعالم أخيراً. المرأة الموزعة بين "المثال" الذي يطمح اليه وبين ما تمثله الكثير من النماذج النسوية من خداع وفجور وعهر. والعالم الذي هو مفارق لكل المثل التي يحلم بها شاعر رومانسي بأصول ريفية - بكل ما تنطوي عليه الريفية من بساطة وطيبة، وبما انطوت عليه رومانسية وريفية إحسان عباس من غياب للعالم الخارجي، وحضور كثيف للذات. فالذات - في أشعار عباس - تكاد تطغى على كل شيء. على القضايا الإنسانية والوطنية التي تعيشها البلاد في مرحلة شديدة الاضطرام والاضطراب، سواء على صعيد المواجهة مع الانتداب البريطاني، أو مع المشروع الصهيوني. إن الحضور الباهت لمثل هذه القضايا في شعر عباس لا يقود بالضرورة الى بهوت في وطنيته، بقدر ما يمكن أن يؤشر الى نمط الوعي الذي تشكلت شخصية الشاعر به، في ذلك الريف أولاً، وفي الكلية العربية في القدس بتقاليدها الصارمة ثانياً. ففي تقديمه هذا "المجموع" يعترف عباس بعجزه عن الخوض شعرياً في... الشؤون القومية والقضايا الاجتماعية والإنسانية، لكنه لا يستبعد الشعر إذا تحدث في هذه الموضوعات، كما أن محبته للريف والريفيين كانت "جزءاً من محبتي للأرض والمنزل والقرية والوطن بعامة، والحديث عنها حديث إنساني أقرب الى مشاعري الصادقة وأقرب الى الطبيعة، وهو في ذاته يكفل الاستقلال بموضوع قل من يحاوله". ومع ذلك لا تخلو الأشعار من ذكر للوطن والقضايا الوطنية في صورة مباشرة، فنجد في الجزء الأخير من الكتاب قصائد في هجاء القيادات السياسية العربية، نقرأ في "الجبناء" عن القادة "الخائنين شعوبهم..."، وصرخة "خلوا المقادة للشعوب..." التي ترددت في قصائد الكثير من الشعراء العرب منذ العشرينات تقريباً. وفي قصيدة "مصرع خائن" نقرأ هجاءً لاذعاً ل "الباغي الذي باع الوطن" ونرى في الختام "ان من يَهْزَاْ بتاريخ العربْ / ليس يُسقى بسوى الموت المرير". ويخصص شاعرنا قصيدة لمديح "العامل" وتحريضه في مواجهة أرباب العمل ومصاصي الدم. ليس في الأمر بهوت وطنية إذاً، بل عجز عن الخوض في هذه القضايا خوضاً شعرياً مختلفاً عما يطرحه الشعراء الآخرون. فالرغبة في الاختلاف، و"الاستقلال بموضوع قلّ من يحاوله" كان في خلفية الاتجاه الذي اختاره الشاعر - إذا جاز أن ثمة اختياراً. ولهذا، سنرى أن أشعار عباس - بصرف النظر عن المستوى الفني - تتفرد وتتمايز عن الشعر الفلسطيني، على صعيد موضوعها، ولكنها حين توضع في سياق الشعر العربي آنذاك، فإنها لا تخلو من أصداء هذا الشعر، خصوصاً الشعر الرومانطيقي المحتشد بالطبيعة والتساؤلات والهموم الوجودية، والبحث عن مثال، هذا الشعر الذي اختار شكلاً للتمرد ظل حائراً وأكثر ميلاً الى البكاء والهروب الى عالم الطبيعة، كما رأينا في شعر الشابي وأبي شبكة وأبي ماضي. ومن قبلهم المعري والبحتري خصوصاً في تمثُّل مقولات فلسفية ذات طبيعة متشائمة وقنوطية ويائسة و... مثالية في بحثها عن الجمال والخير والعدالة والحرية. والحديث عن هذه الأصداء لا يعني غياب أي خصوصية لصوت الشاعر - عباس، فثمة في أشعاره وفي أزهاره البرية ما ينم عن روح وتجربة وأحاسيس ومشاعر جديدة، طازجة. وهناك الكثير من التجريد والصور الذهنية الباردة، برودة المقولات الفلسفية. وثمة الكثير من التهويمات في عالم الوهم حيناً، وفي عوالم الحلم والمثل أحياناً. وثمة، أساساً، هذا العالم الطفولي البريء والمثالي في رؤيته الى العالم، في الوقت نفسه الذي نقرأ فيه روحاً شكاكة شديدة التشاؤم والشكوى. الروح المحتشدة بأسباب الألم والمعاناة، الهادرة فيها أسباب الثورة والتمرد على الواقع، ولكن المقيدة بأسباب العجز والقهر في مناخ يقمع أي رغبة في التحرر أو في الانفصال عن الواقع، فيكون البديل في الخنوع والدموع المسفوحة أمام شاطىء أو تحت ظلال شجرة رؤوم. نحن، في "أزهار برية"، أمام تجربة تتوزع على ألوان من الشعر، في أشكال مختلفة ومتنوعة، فعلى صعيد الشكل وبنية القصيدة فهما تنتميان الى الشعر التقليدي الذي لا ينطوي على أي جهد في التغيير أو التثوير، بل يسير ضمن البنية والأوزان والإيقاعات التقليدية، حتى اللغة هنا مسبوكة سبكاً رصيناً، إن على صعيد بناء الجملة أو على مستوى اختيار المفردات والقوافي. هذه العناصر البنائية التقليدية تكبل الروح المتمردة التي يجري التعبير عنها، فيأتي بعض الشعر خالياً من الروح، مفتقراً الى جمرة الإبداع، لكنه منظوم نظماً فنياً دقيقاً، ولا بد من القول إن بعض هذا النظم متجهم وصلد. إلا أن هذا ليس هو الطاغي، فثمة ألحان وايقاعات خفيفة ومتحركة، بل ان بعض الأشعار ينطوي على روح سخرية مريرة لا تخلو من لمسات مرحة، وطريفة. ولعل هذه المراوحة أن تكون نتاجاً طبيعياً لتجربة نفسية متقلبة لم تعرف الثبات والاستقرار. في هذه التجربة نتنقل مع الشاعر من "مسارح الرعاة" الذين يجسدون المثال الأعلى من الطيبة والبراءة، ونمضي معه الى غزليات ذات نزعة غريبة بين خلطها بين الرغبة في الحب وبين هجاء المرأة والخوف من عالمها الذي لا يمكن أن يخلو من الخديعة والاستغلال والغدر، كما في هذين البيتين - مثلاً: وقلبت تاريخ الوفاء فيم يلح / لحوّاء في ليل المحبات مشعلُ / وأحسنت ظني بالنساء فلم أجد / سوى شهوة تطغى وغدر يزلزلُ ونحن أمام شاعر يصور التقلب بين الرضى والشكوى، بين العقل والقلب، بين الزهد في الملذات والرغبة الكامنة بالغرق فيها. شاعر يعبر عن تناقضات صارخة قد تكون في شخصه أو في أشخاص حوله. لكنه التعبير عن تقلبات الإنسان وتناقضاته في حياة يرغب أن يكون له فيها حضور قوي، فهو يرى أن "كل فتى يرضى اليسيرَ مغلَّبُ". ومنذ وقت مبكر يعلن الفتى العزوف عن الحياة ومباهجها ليمنح نفسه للكتاب، ويعلن "كتبي جنة وعمري قصير"،ففي هذه الجنة ينهب اللذات دون حساب، في وحدته التي هي "معبد"، والكأس فيها "كتاب / ونديمي قلب عريض الرغاب". وكثيراً ما يتعذب الفتى لأنه يشعر بأنه قتل السنين في لا شيء، وحث المنى "وراء سراب"، لكنه يعود فيعلن أنه قرأ الدروس كلها غير كتاب هو "سفر الحياة" الذي هو "سطور / من عباب يموج إثر عباب". ونفس الشاعر التي تتقلب بين ضعف وقوة، هي محور حوار بينه وبين ذاته، فهو يرى نفسه وقد "تسربت / من الملأ الأعلى الى عالم الوحل" فيتركها تجره الى عالم الأسى، ويغفر ما تجنيه، بل يطعمها ما تشتهيه، وربما يبكي لشقائها، فهو يعلم أن "لها في الأرض جولة عابر / فبعد غدٍ عن دقعة الوحل تستعلي". وربما كان في قصيدته "نفس" هذه يترجم ما قاله الشاعر عن النفس الإنسانية: والنفس كالطفل ان ترضعه شب على / حب الرضاع وان تفطمه ينفطمِ إلا أن الاحتباس، لا الانطلاق، هو ما يسم مسيرة شاعرنا، ويطبع شعره، ما يجعله يتساءل متشكياً "أين الطلاقة في الحياة وفكرتي / باب على أحلام نفسي مغلق". والفكرة هذه لا تغلق باب الأحلام فحسب، بل هي ما يضفي المزيد من القيود على الشعر، فالتفكير يفسد الشعر، ولهذا ليس غريباً أن يتردد في جنبات هذه الحديقة الشعرية أصداء قول الشاعر نفسه "أنا قد قنعت ببعض حظ الشاعر" في قصيدة تأخذ طابع الحوار بينه وبين فتاة "قالت... فقلتُ". وفي سياق قريب من ذلك، نقرأ حيرة الشاعر المتردد "بين البؤس والشهرة" كما يظهر من عنوان قصيدته التي يشكو فيها من مراوحته في مكانه، والأيام تمر دون أن تحمل له أي شهرة لشعره، فيصرح متحسراً: يا حسرتا! أأظل أمضغ في دجى النسيان شعري ثم يصرح: قد كنت أحلم أن أذوب على ابتسامات الشفاهِ/ أنشودة جنح الخلود بها وضيّعها التناهي ونعود الى التقديم لنقرأ أن العزوف عن الشهرة لم يكن يمر دون تذمر، لأن للشهرة جاذبية قوية وسحراً متمكناً. لكن السؤال حول عزوفه عن الشهرة، وعن نشر شعره في الصحف والمجلات، وعن قراءته أمام الناس، فنجد جوابه في فقرة من التقديم حيث يقول "كانت أسباب ذلك ذات صلة بخجل مستحكم لديّ من أن أستغل وقت الآخرين وأفرض عليهم الاستماع الى مواجدي وشؤوني العاطفية، كما كنت أخشى المجاملة الاجتماعية وأمقتها لدى الآخرين عند استماعهم لشعر غيري. وكنت قد انتحيت بالشعر وجهة التغني بالريف والحياة الريفية وأهل الريف الذين أطلقت عليهم اسم "الرعاة، ولم يكن بين الرعاة الذين أعرفهم من يستهويهم سماع الشعر المكتوب بلغة فصحى، فلم يكن لشعري بين القرويين الأميين جمهور، وكان في طبيعته العامة بعيداً عن السياسة وعن حماسة شعر السير الشعبية وعن الموضوعات والقضايا التي تشغل بال الناس وتستأثر باهتمامهم، فكان التحدث اليهم عن الشؤون العاطفية أمراً نابياً قد يعني - في نظرهم - الاستهتار بما يعدونه أهم وأجدى". ربما كان هذا التبرير يسوّغ عدم قراءة الشاعر شعره للريفيين الأميين، في مرحلة من تاريخ فلسطين تشهد صراعات دامية كما ذكرنا من قبل، ولكن الشاعر لا يقول لنا لماذا لم ينشر شعره في صحف ومجلات القاهرة، مثلاً، حيث أمضى سنوات دراسته؟! أهو الخجل من نشر شعر لا يتناسب مع روح المرحلة؟ ربما. وربما يكون هذا العزوف عن شهرة لم تتحقق سبباً في العزوف عن الشعر كتابةً، والتوجه الى الحياة الجامعية والبحثية والنقدية، التي راح صاحبنا يرى فيها ما هو أجدى من الشعر في خدمة قضية شعبه وأمته، وان كان - بالتخلي عن الشعر - يفقد "صاحباً ارتاح اليه وأجد فيه عزاءً كبيراً عن كل ما ضنت به عليّ الحياة". وهنا، في هذه التضحية تكمن أبرز سمات وملامح الشخصية التي تحدثت عنها، وهي التضحية من أجل مثل أعلى، وقضية كبرى.