صرنا نعرف الحكاية... ولا نمل من تكرارها في كل مرة حلت فيها دورة جديدة لمهرجان"كان"السينمائي وخلت الدورة تقريباً من حضور عربي، أو امتلأت بهذا الحضور. مثل هذا الأمر يفرض عادة ان نذكّر بكيف ان المغرب كان اوائل سنوات الخمسين أول بلد عربي يرفع علمه في مهرجان"كان"انطلاقاً من كون الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية"عطيل"الذي كان صوّر في مدينة الصويرة المغربية لأسباب انتاجية من دون ان تكون له اي علاقة بالمغرب، اللهم إلا إذا اعتبرنا كون الشخصية الرئيسة"عطيل"ذات أصول مغربية! المهم ان هذا ما حدث في ذلك الحين حيث كان يفترض بالفيلم، أول الأمر، ان يصوّر في فرنسا اذ كانت تنتجه شركة فرنسية - إيطالية. ثم انسحب الطرف الفرنسي، فتقرر أن يصور الفيلم في ايطاليا إذ اصبح ايطاليّ الإنتاج. ثم انسحب الطرف الإيطالي بعد إفلاسه فانتقل ويلز ليصور الفيلم في"ديكورات طبيعية"مغربية. وحين عرض في"كان"قرر ويلز، اذ لم يعثر له على طرف إنتاجي محدد يتبناه، قرر ان يقدمه باسم المغرب. وهكذا كان ودخل هذا البلد تاريخ المهرجانات من باب واسع بفضل أورسون ويلز. هذه الحكاية التي لم يعد هناك من يجهلها بين هواة السينما يحكيها ويلز بنفسه في واحد من آخر الأفلام التي حققها في حياته وهو فيلم"تصوير عطيل"الذي أنجزه سنة 1978، يبلغ طوله نحو ساعة ونصف وتم تحقيقه بفضل تمويل أميركي ? ألماني مشترك، ما يعني ان ويلز الذي كان عجز قبل نحو ربع قرن عن إيجاد تمويل أميركي لفيلمه عن عطيل تمكن من ان يحصل على ذلك التمويل لتحقيق فيلم عن عطيل."إنها واحدة من دورات القدر التي اعتدت عليها!". كان هذا تعليق ويلز على الموضوع. * على رغم ان"تصوير عطيل"عملاً شبه وثائقي ضمن نوعية السينما عن السينما، فإنه في الحقيقة يبدو عملاً مستقلاً في ذاته لا يكاد يشبهه أي عمل سينمائي من قبل، حتى وإن قلّد كثيراً من بعد. من ناحية أولى يحاول ويلز في هذا الشريط ان يجيب عن أسئلة كثيراً ما راودت ذهن معجبيه حول الفيلم، لكن الرجل شاء من هذا العمل ان يكون أكثر من مجرد أجوبة توضيحية. أراده ان يكون مساهمة بصرية وعملية في تاريخ السينما وتاريخ اللغة السينمائية نفسها. وهكذا تحت مظلة الحديث عن"عطيل"وتصويره، قال ويلز أشياء كثيرة يصح ان يعتبر بعضها أشبه بوصية سينمائية له. * من ناحية شكلية يتكون"تصوير عطيل"من أربعة أجزاء أطولها وأهمها أولها. إذ فيه نرى أورسون ويلز منذ اللقطة الأولى وهو بالقرب من"الموفيولا"- أي طاولة المونتاج - حيث ستمر مشاهد ولقطات من الفيلم. وفي ذلك الموقف يعمد ويلز من فوره الى تأكيد أهمية المونتاج في تحديد اللغة السينمائية. فعنصرا السينما الأساسيان هما بالنسبة إليه الحركة والبنية الإيقاعية - حتى وإن كان كثر ينظرون الى هذين العنصرين على اعتبارهما واحداً وهذا غير صحيح يقول ويلز -. وويلز يؤكد هنا ايضاً ان الفيلم لا يكون شيئاً إن لم يكن ذا سمة موسيقية. وإذ يفتتح ويلز كلامه بهذا التأكيد الدقيق، ينتقل الى منحى آخر من حديثه ليروي لمتفرجيه الحكاية الخلفية لفيلم عطيل قائلاً ان البداية كانت مع منتج ايطالي تخصصت شركته في الأفلام التي تصور الأعمال الأوبرالية. اتصل به ذلك المنتج يومها من طريق اصدقاء واقترح عليه ان يحقق فيلماً عن"عطيل". ولكن"في الوقت الذي كانت تدور فيه في ذهني على الفور الصيغة السينمائية التي سأقدم من خلالها شكسبير، كان المنتج يفكر، طبعاً، بفردي... ولتوضيح هذا الكلام نوضح هنا ان المنتج الإيطالي كان يفكر بأوبرا"عطيل"كما لحنها فردي وليس بمسرحية شكسبير، إذ كان يرى ان الأوبرا اذ تتحول فيلماً تكون - على عكس المسرحية - قادرة على اجتذاب جمهور عريض. إذاً، بالنسبة الى المنتج كان الهدف تجارياً - فنياً. اما ويلز فأراد ان يحقق مراميه الفنية من خلال"أفلمة"شكسبير مباشرة. من هنا نتج عن ذلك اللقاء مشروع ملتبس يفكر كل من صاحبيه به، في اتجاه غير اتجاه تفكير الآخر. ومع هذا راح العمل يجرى على قدم وساق، وكلف الفرنسي تراونر بتصميم الديكورات بل حتى بتنفيذ بعضها في استوديوات فكتورين الفرنسية. وراح ويلز يجري تدريبات في مواقع في بولونيا قرب باريس. ولكن من دون سابق إنذار انسحب طرف فرنسي كان يفترض ان يدخل الإنتاج - ما يبرر ان يجرى التصوير في فرنسا - ليصبح الإنتاج إيطالياً. وهنا تزامن اكتشاف المنتج الإيطالي ان ويلز يريد العمل على شكسبير، مع إفلاس شركة هذا المنتج. فتوقف العمل لينتظر ويلز بضعة شهور قبل ان يتمكن من إقناع منتجين جدد والانتقال للتصوير كيفما اتفق في المغرب. هذا كله يرويه ويلز في هذا القسم الأول من الفيلم. اما في القسم الثاني فإننا نراه يلتقي، خلال مأدبة، بعدد من الذين اشتغلوا معه على الفيلم ومن بينهم ماكليامور الذي لعب دور اياغو وهيلتون إدواردز. وهنا يدور حديث شيق بين الثلاثة يكشف عن تصورات مختلفة وغنية للمسرحية كما للشخصيات. ويعرّف ماكليامور شخصية اياغو قائلاً:"إنه في رأيي، ليس شخصاً شريراً بالضرورة، لكنه شخص يمارس ذلك الفن الخاص الذي كان رائجاً عند نهاية القرن التاسع عشر: الفن الذي يقوم في لعب لعبة القط والفأر مع عطيل"، حتى وإن كانت اللعبة تنتهي هنا نهاية مأسوية، وعند نهاية هذا الحديث الشيق يتوافق الثلاثة على السمة الرهيبة للغيرة، إنها، كما يقول ويلز ويوافقه الآخران"أكثر ضروب الشغف دناءة، بل أسوأ من هذا، إنها مرض حقيقي". في الجزء الثالث من الفيلم، تدور الكاميرا من حول اورسون ويلز وهو يتناقش حول فيلمه هذا، ضمن اطار مناقشات حافلة حول سينماه ككل، مع طلاب السينما في جامعة بوسطن الأميركية. وهذا النقاش يلي كما نفهم عرضاً للفيلم، وخلاله يجيب ويلز عن أسئلة كثيرة لطلاب من الواضح انهم اذكياء ومهتمون بالأمر، ناهيك بأن أسئلة كل منهم تكشف عن انهم يعرفون فيلم"عطيل"بل سينما اورسون ويلز كلها عن ظهر قلب. وخلال ذلك النقاش الساحر يتجاوز ويلز الحديث عن فيلمه ليسهب في تحديد اساليبه وتصوراته لفن السينما. في الجزء الرابع والأخير من الفيلم ثمة ما يمكننا ان نسميه عود على بدء. إذ هنا كما في مفتتح الفيلم ترانا في مواجهة اورسون ويلز وهو في حالة المونتاج امام"الموفيولا"من جديد. انه هنا وبكلمات بسيطة لا تخفف لهجة ويلز الفخمة من بساطتها، يلخص لنا كل ما سبق ان شاهدناه وسمعناه في الأجزاء الثلاثة السابقة، خاتماً حديثه بطريقته المسرحية المعهودة قائلاً:"تلاحظون انني حاولت طوال الوقت ان أكون صادقاً، لذا أطلب منكم ألا تتوقعوا مني أن أكون موضوعياً". على رغم طابعه التوثيقي التسجيلي، عرض هذا الفيلم في الصالات والمهرجان ونال نجاحاً كبيراً، إذ شكل وثيقة اساسية عن سينما هذا الذي يعتبر دائماً واحداً من اهم مبدعي فن السينما في القرن العشرين. وإذا كان"تصوير عطيل"ألقى أضواء كاشفة على هذا الفيلم وعلاقة أورسون ويلز 1915 - 1985 به، فإنه في الوقت نفسه ألقى أضواء أكثر سطوعاً على السينما ككل وعلى سينما ويلز التي زينتها دائماً جواهر مثل"المواطن كين"وپ"السيد اركادان"وپ"لمسة الشر"وپ"فالستاف"...