من المتعارف عليه، عادة، ان الجزائر كانت أول بلد عربي يحقق فوزاً سينمائياً عالمياً كبيراً. حدث هذا، طبعاً، في العام 1975 حين فاز فيلم "وقائع سنوات الجمر" لمحمد الأخضر حامينا بالسعفة الذهبية فاتحاً درب انتصارات سينمائية عربية سار على خطاه فيها بعد ذلك يوسف شاهين من مصر ومارون بغدادي من لبنان وايليا سليمان من فلسطين. مع هذا قد يكون من الطريف أن نذكر هنا بأن علم المغرب رفرف، في "كان" منتصراً، قبل علم الجزائر بنحو ربع قرن تقريباً، بحيث ان المغرب كانت واحدة من أولى الدول التي حصلت على سعفة كان الذهبية، وفي وقت لم يكن فيه هذا البلد قد حقق أي فيلم سينمائي جدير بهذا الاسم. فكيف حدث ذلك وهل نحن أمام لغز ما؟ على الإطلاق... ليس ثمة في الأمر لغز ولا يحزنون. الذي حدث هو ان الفائز، باسم المغرب، لم يكن مغربياً ولا حتى عربياً على الاطلاق، كان السينمائي الكبير اورسون ويلز. أما الفيلم فكان "عطيل" والحكاية أن ويلز حين شاء أن يشارك ب"عطيل" في مهرجان "كان" لدورة العام 1952، وجد في وجهه مجموعة من الظروف والضواغط التي تمنعه من أن يقدم فيلمه باسم بلده، الولاياتالمتحدة... كما ان ظروفاً قانونية حالت دون تقديمه باسم فرنسا أو ايطاليا - المشاركتين في انتاجه - ومن هنا، إذ كان هو - عبر شركته "مركوري فيلم" - المنتج المنفذ ل"عطيل" وإذ كان الفيلم قد صور بأكمله في مدينة الصويرة المغربية، وجد ويلز ان الحل الأفضل هو أن يقدم فيلمه باسم المغرب... وهكذا كان وحقق اورسون ويلز، من دون أن يقصد أو يدري، أول "انتصار" سينمائي عربي عالمي. غير ان مساهمة المغرب في الفيلم اقتصرب على هذا الأمر، إذا نحينا جانباً وجود بعض التقنيين المساعدين في الفيلم... إذ حتى بين أسماء الممثلين لا نجد أي اسم عربي. وعلى أية حال لم يكن هذا ليشكل هماً بالنسبة الى اورسون ويلز في ذلك الحين. يومها كان ويلز مهتماً بأن يكمل دربه السينمائية، وبخاصة بأن يؤفلم بعض أعمال شكسبير التي كان سبق له أن اشتغل عليها مسرحياً، ووجد امكانية هائلة لأن يقول سينمائياً بعض هواجسه المعاصرة، والفكرية والفنية، من خلالها. ومن هنا، حتى إذا كان ويلز، في اقتباسه ل"عطيل" قد حافظ على كل سمات وتفاصيل العمل الشكسبيري، فإنه في الجوهر عبر عما كان يراه في ذلك الحين من أن "عطيل" عمل "فريد من نوعه في أعمال شكسبير: ذلك أن هذا العمل هو تراجيديا عائلية قبل أي شيء آخر. فالمسرحية لا تدور أحداثها داخل قصر أو في بلاط... وشخصياتها ليست ملوكاً همها أن تلقي بثقلها على مجرى التاريخ وأحداثه. المسرحية كلها تدور داخل دار. والرئيسيان فيها هما رجل وزوجته... أما أن يكون شكسبير قد جعل البطل - أي الرجل - جنرالاً فما هذا إلا لأنه كان يعرف أن الجمهور لا ينظر بعين الجدية إلا الى الأشخاص ذوي الأهمية...". إذاً، على هذا النحو فهم اورسون ويلز، الشكسبيري حتى الأعماق، جوهر "عطيل"، وعلى هذا النحو اقتبس هذا العمل. وإذا كنا نعرف ما الذي يحدث داخل هذه المسرحية، ونفهم تماماً الأحداث ومجراها، كما صورها اورسون ويلز... فإن تلخيص الأحداث كما يأتي في الفيلم كاف، لوضع القارئ في صلب هذا العمل: إذ أننا نبدأ هنا بالجموع وهي تحتشد لكي تودع في صمت وخشوع، وفي قدر من الحزن كبير، جنازة عطيل وزوجته دزدمونة، فيما ثمة أيضاً رجل مسجون داخل قفص يرفع فوق الرؤوس. ويتلو هذا صوت اورسون ويلز الذي يحدثنا مباشرة واصفاً ما يحدث... وننتقل بذلك الى الأحداث التي يفترض انها تدور في البندقية فينيسيا حيث كان يعيش عطيل الأفريقي، الذي بعدما كان مرتزقاً يحارب بأجره، صار قائداً لأسطول المدينة... وهو ذات يوم يختطف ويتزوج دزدمونة، ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ في البندقية. ثم حين يصل بأسطوله الى جزيرة قبرص يتخذ من كاسيو، ابن فلورنسا، مساعداً له... وهكذا ينضم كاسيو الى اياغو في معاونة عطيل الذي يمنحهما، معاً وبالتساوي ثقته وصداقته... ويتتابع هنا مجرى الأحداث كما صاغها شكسبير: يحدث أن يتهم كاسيو ظلماً ويُطلب من دزدمونة أن تتدخل لدى زوجها لمصلحته. وتكون تلك مناسبة يتمكن اياغو من خلالها - إذ لم يكن ليستسيغ تلك المكانة التي أعطيت لكاسيو وبات راغباً في التخلص منه... وربما من عطيل في الوقت نفسه - من اقناع عطيل بأن دزدمونة تخونه. وتكون النتيجة أن يقتل عطيل دزدمونة بالطريقة التي نعرف. ثم إذ تكشف له اميليا زوجة اياغو حقيقة الأمر، ينتحر، فيما يقدم اياغو على قتل زوجته... ثم يقبض عليه... الخ. انطلاقاً من هذه الأحداث "العائلية" المعروفة، إذاً، صاغ اورسون ويلز هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو بنفسه. لكنه لم يكتف، طبعاً، بالتفسير الشكسبيري للأحداث، حتى وان كان سار على خطى المعلّم الانكليزي الكبير، في تصوير الأحداث وسط أجواء مقلقة تماماً: قاعات وأعمدة بالكاد تطل عليها الشمس... ذلك ان ويلز هنا أراد التركيز على ذلك الانغلاق الذي تعيشه شخصياته، على رغم انها شخصيات بحرية وعلى رغم أن الأحداث تدور في جزيرة قبرص حيث الشمس ساطعة في شكل متواصل. أما المشهد النهائي في الفيلم - وهو أيضاً مشهده الافتتاحي - فإنه يدور تحت أشعة الشمس، ولكن بعد مقتل عطيل ودزدمونة... وهي اضافة أساسية من اورسون ويلز الذي سيقول لاحقاً انه انما شاء من ذلك كله أن يلقي الضوء ساطعاً على الكيفية التي يصل بها المرء الى السلطة ثم يفقدها غارقاً في هبوطه الى الجحيم. لقد صور ويلز، كما أشرنا، فيلمه عند أسوار الصويرة المغربية وفي مينائها، وملأ الفيلم بمشهد قصور البندقية، التي كان بعضها حقيقياً، وبعضها ديكورات نفذها الكسندر تراونر... وفي ظل تلك الأمكنة الحقيقية أو المبنية تمكن اورسون من تحقيق ما أراد: سجن شخصياته بين الأعمدة المظلمة وفي الغرف نصف العتمة. جعل الديكورات واللقطات والماكياج وحركة الكاميرا، اضافة الى المؤثرات الصوتية... جعلها كلها تساهم في رسم صورة ذلك السجن الذي بناه عطيل في داخله ومن حوله، مبعداً عنه أي فرح وكل صوت للعقل منذ اللحظة التي بدأت فيها ظنونه تتحرك... بل ربما تحركت ظنونه أصلاً بفعل ذلك الانغلاق الذي صار قرينه منذ وصل الى سلطته. وأحس ان ما من سلطة تدوم، وانه سيخسرها لا محالة... وللتعبير عن هذا، للتعبير عن حركة أرواح قلقة وأحداث تتالت بسرعة جهنمية، تخلى ويلز هنا عن توليفه المعتمد على المشهد/ اللقطة، ليجزئ فيلمه الى أكثر من 1500 لقطة تتتابع في حركة دوخان مثير... وفي مناخ يصبح فيه المرء جلاد ذاته: يصبح هو الجلاد وهو الضحية في آن معاً... ولقد ساهم كل هذا المناخ الذي رسمه اورسون ويلز من حول نفسه - إذ قام هو بالاخراج، كما قام بلعب الدور الرئيسي - في اعطاء هذا الفيلم قيمته المطلقة، ما جعله يعطى بالتالي سعفة "كان" الذهبية. وويلز حين حققه، كان قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره قليلاً... وكان قد حقق قبله بعض أجمل روائعه، بدءاً من "المواطن كين"، الى "آل امبرسون الرائعين" و"ماكبث" و"رحلة في بلاد الخوف" و"سيدة من شانغهاي" أما من بعده فإن ويلز 1915 - 1985 حقق "السيد اركادان" ثم "الظمأ الى الشر" ف"المحاكمة" و"فالستاف" بين أعمال أخرى.