يوجد في المنطقة العربية جيل جديد من الناشطين في ورشة عمل ملفتة قوامها الاقتناع من الصميم بأن إحداث التغيير ليس حلماً مستحيلاً وانما هو رؤية جاهزة للتنفيذ. هذا الجيل تجددي الفكر والفعل يرفض الاستسلام للأمر الواقع وللاحباط، لا يخشى المغامرة، ولا يخاف التفكير خارج الصندوق، ولا يرضى بتكرار المعتاد. الاصلاح، في رأيه، مترابط بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والورشة، حسب تصوره، محلية واقليمية ودولية وهي بالتأكيد غير تقليدية. هذا الاسبوع، في الأردن، ابتدأ بتجمع عالمي لحوالي 550 سيدة من مختلف القطاعات تحدثن عن السياسة والدين والاقتصاد وفرص العمل واستمعن الى جيل جميل من النساء العربيات اللواتي يتفقن أو يختلفن باحترام تام للآخر حتى في معارك الخيارات المصيرية. ومع انتهاء الاسبوع يكون انعقد مؤتمر الناشطين للسلام في العقبة ويكون البحر الميت قد تحوّل الى قلعة للقيادات العالمية، الفكرية والسياسية والإعلامية والأكاديمية، حيث تدور نقاشات علنية ومغلقة في أدق الشؤون وحيث تُصاغ توجهات للمستقبل. انما المحطة التي كان يفترض أن تكون مثيرة بسبب الفكرة الخلاقة وراءها، أي مؤتمر الحائزين على جائزة نوبل للسلام في البتراء، فإنها كشفت أن الجانب الاسرائيلي هو الذي يرفض التغيير بل يضع العراقيل أمام الموجة العربية المعتدلة المؤمنة بأن الأمور قابلة للتغيير وتعمل من أجله. وحسبما تبين أثناء مؤتمر البتراء أن التغيير الذي تعمل نحوه الأوساط الاسرائيلية والداعمون لها من أمثال ايلي ويزل، الرئيس المشارك للمؤتمر، هو الغاء وقائع عبر الغاء المصطلحات التي تصفها تمهيداً لحملات تضليلية. وبدعة اليوم تمثلت في رفض تعبير"الاحتلال"وصفاً لوضع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. فاسرائيل، كما تم ابلاغنا به هذا الاسبوع على لسان شيمون بيريز وايلي ويزل الحائزين جائزة نوبل للسلام، لا تقبل بتعبير الاحتلال وصفاً لاخضاعها الأراضي الفلسطينية لها. وهذا ليس فقط موقفاً عنيفاً بكل معنى تعبير العنف وانما هو أيضاً تصرف مذهل لافتقاده أدنى درجات الحساسية نحو الضيافة الأردنية ونحو القيادة الأردنية لورشات إحداث التغيير والاعتدال محلياً واقليمياً. المنتدى الاقتصادي العالمي WEF الذي ينعقد في البحر الميت اليوم يحمل عنوان"اطلاق طاقات التعددية والتنوع"وهدفه إبراز إمكانية ومركزية اطلاق ورشة العمل ليس برغم وانما من أجل وبمشاركة طاقات التعددية والتنوع في المنطقة بأديانها وثقافاتها وجنسياتها وعشائرها وأعمارها ومذاهبها وأجيالها. هذا العنوان الذي اختاره الأردن بالتنسيق مع المنتدى الاقتصادي العالمي له دلالات مهمة على الأولويات والتوجهات وكامل الرؤية. وليس العاهل الأردني الشاب، الملك عبدالله الثاني، وحده الذي يقود حافلة التغيير المنشود وانما الشباب الأردني المتحمس والناشط من أجل التغيير يرافقه في مقعد القيادة. وهذا الشباب موجود في القطاع الخاص وفي القطاع العام حيث كثير من الوزراء في الأربعينات، كما ان الملكة الشابة رانيا العبدالله في طليعة الناشطين محلياً واقليمياً ودولياً. للملكة رانيا العبدالله نشاطات عدة كان بينها هذا الاسبوع تكريم الطلبة العرب الفائزين بمسابقة"أفضل شركة طلابية"التي أطلقها برنامج"انجاز"في المنطقة العربية وتم اختيارهم من بين الدول العربية التي تتبنى البرنامج وهي الأردنوفلسطين ومصر ولبنان والبحرين والكويت والامارات وسلطنة عمان. وبرنامج"انجاز"يقوم أساساً على فكرة ورشة التغيير عبر التدريب على المهارات الأساسية لتعزيز فرص دخول الشباب الى سوق العمل عبر استخدام أحدث أساليب التعليم. ويتطوع عدد من موظفي القطاع الخاص في كل دولة عربية لتدريب الطلاب على أحدث الأساليب المتبعة في عالم المال والأعمال. مؤتمر"المنبر العالمي للنساء"IWF حمل عنوان"بناء الجسور وهدم الجدران"وتناول مواضيع مهمة مثل"الايمان والهوية والتعايش"و"المنطقة الرمادية: العلاقات المعقدة بين الشرق والغرب". وبين أبرز الرسائل التي أطلقها المشاركون في المؤتمر، رجال ونساء، رسالة الجرأة على التغيير والجرأة على الاجتهاد والجرأة على الطلاق من الخوف. وقع النقاش والاختلاف في الرأي حول أمور سياسية واجتماعية ودينية عدة. البعض دافع عن إعادة الدين الى السياسة وأسماه عودة حميدة للايمان الى السياسة. والبعض الآخر عارض تسييس الدين وإقحامه في السياسة تحت أي ظرف كان. لم يتسلط الخوف وانما أخذت الجرأة مكانها الطبيعي بين النساء اللواتي جئن من مختلف القارات لفهم وتفهم العالم العربي. وارتفعت النساء العربيات الى مستوى التحدي بكل جرأة عندما تحدثن عن الدين أو عن الديموقراطية والعصرنة والسلطة المطلقة. بعضهن سأل إن كانت الديموقراطية هي التي ترفض الاسلاميين أو ان كان الاسلاميون هم من يرفض الديموقراطية. بعضهن قال ان الاسلام يقبل بالديموقراطية لكنه لا يطالب بالديموقراطية إلزاماً. وهناك من كان واضحاً تماماً في خيارات صعبة فاختار الاوتوقراطية العلمانية على الديموقراطية الدينية في الحكم والسلطة أينما كان وفي أي وقت كان سيما الآن في هذه الحقبة من مرحلة التغيير في المنطقة العربية. بعض أصحاب هذا الرأي، وصاحبة هذا المقال منهم، يجد نفسه مضطراً للوقوف مع الاوتوقراطية العسكرية في تركيا ليس لأن رجال الحكم في تركيا سيئون بل لأن فصل الدين عن الدولة مبدأ أساسي بالنسبة الى اصحاب هذا الرأي. هناك آخرون ينتمون الى المدرسة ذاتها لكنهم يجدون في الاسلاميين المتطرفين وحتى في الارهابيين"فرصة"للتغيير، بمعنى تغيير الأنظمة وتغيير الوضع الراهن وهز المعادلات السياسية السائدة داخل البلاد العربية ونحو اسرائيل. اذن، الخلاف حول كيفية التغيير خلاف جذري حتى بين المعتدلين وليس فقط بين صفوف الاعتدال وصفوف التطرف. التدميريون والتكفيريون بدورهم يريدون التغيير القمعي وشعارهم الغاء الآخر. الغوغائيون يصرخون بالتغيير يومياً ويتحدثون عن بؤس الأنظمة العربية ويطالبون بالخلاص حتى على أيدي الاسلاميين المتطرفين. الشعبويون يريدون التغيير بالهتافات والمزايدات ومعظم الشارع العربي يتصرف وكأن الشتيمة والغضب رفيقان للاحباط يعوضان عن العجز عن التغيير. على رغم كل هذا، يوجد في المنطقة العربية جيل جديد من الناشطين في ورشة التغيير وهم مقتنعون بجدواها. هؤلاء لا ينصبّون حصراً على السياسة لكنهم لا يتجاهلونها. انهم يتناقشون ويتفاعلون مع ما يحدث في العراق ولبنان وفلسطين والسودان ويتخذون مواقف إزاء التطورات في المنطقة وبالذات ضد التطرف والارهاب. وفي الوقت ذاته، انهم ناشطون في ميادين التعليم، والحقوق المدنية والصحة والاقتصاد ومحاربة الفقر والتمييز والعنف ضد النساء. أثناء مؤتمر البتراء الثالث لحوالي 40 من الحائزين جائزة نوبل للسلام والذي حمل عنوان"بناء عالم أفضل"وشارك فيه علماء في الطب والفيزياء والاقتصاد والكيمياء ركز الملك عبدالله الثاني على استفادة الشباب من خبرات هؤلاء الرجال وسيدة واحدة بينهم ودعا الحائزين الجائزة الى مساعدة الجيل الشاب. دعا الى إنشاء صندوق علمي اقليمي يديره ويشرف عليه الحائزون جائزة نوبل وذلك لاستقطاب دعم عالمي للتميّز الأكاديمي والبحث العلمي وتدريب علماء الغد. أثناء المؤتمر الذي يتبنى انعقاده"صندوق الملك عبدالله للتنمية"و"مؤسسة ايلي ويزل من أجل الانسانية"تحدث كل من رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت وسلفه شمعون بيريز. وأثناء غداء عمل ونقاش بين مستشار رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عبد ربه وبين بيريز، خرج بيريز بمقولة مدهشة رداً على عبد ربه بقوله: لا يوجد شيء اسمه احتلال. ألغى كلياً مصطلح الاحتلال في العلاقة الاسرائيلية - الفلسطينية ورفض تطبيق ذلك الوصف على الدور الاسرائيلي مع الفلسطينيين. ما زاد من الدهشة أتى في اليوم التالي بعدما قدم أربعة من العلماء خلاصة تقاريرهم عن التعليم والصحة والاقتصاد والبيئة وتحدثوا عن أوضاع فلسطينية صعبة ومتردية نتيجة هذا وذاك من الظروف من دون أن يذكر أحد منهم ان أياً من هذه الأوضاع جاء نتيجة الاحتلال والاجراءات التعسفية التي ترافق الاحتلال. كاتبة هذا المقال سألت عن سبب غياب أو تغييب مصطلح الاحتلال بصفته مساهماً في تردي الأوضاع الفلسطينية، كما وجهت الى ايلي ويزل سؤالاً عما اذا كان - بصفته رافع راية حقوق الانسان - يعتقد بأن الاحتلال يتنافى مع حقوق الانسان أو يشكل انتهاكاً لها. وجاء جواب ايلي ويزل ليكشف ازدواجية مذهلة إذ تجهم وعبس وغضب واختصر وقال:"لقد جاء الجواب على هذا السؤال أمس على لسان الحائز جائزة نوبل للسلام شمعون بيريز". وعندما نهضت سيدة أردنية وأعربت له عن أسفها لمثل هذا الجواب، قال أكثر. قال ان بيريز"شرح لماذا لا تقبل اسرائيل بهذا المصطلح. وأنا احترم تقويمه". قال انه يكن كل"العطف"sympathy للفلسطينيين، انما هذا المنبر - أي المؤتمر - ليس منبر"تسييس"وتحدى، اضافة، قائلاً: لا تحاولوا إقحام التوتر في هذا المؤتمر. قال ان الاتفاق هو على"ازالة السياسة عن هذا المؤتمر... فلا تسيسوه". غريب أن يدعي ايلي ويزل أن السؤال عن مكان مصطلح"الاحتلال"الآن هو تسييس لكنه لم يجد في حواره مع اولمرت تسييساً أو في دعوته اولمرت وبيريز الى المؤتمر فتحاً لأبواب السياسة. الأغرب ان هذا الحائز جائزة نوبل للسلام تناسى تماماً أن كل خطة سلام، دولية أميركية أو عربية، تنص على انهاء الاحتلال الاسرائيلي كركيزة لمعاهدات السلام بين العرب واسرائيل وكحجر أساس لحل الدولتين: فلسطين الى جانب اسرائيل. حتى"رؤية"الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش انطلقت من انهاء الاحتلال. خطورة استبدال مبدأ انهاء الاحتلال بتكتيك الغاء مصطلح الاحتلال تكمن في سوء نيات هذه الاستراتيجية الجديدة التي يجب التصدي لها. انها تقوي الرأي القائل إن اسرائيل لا تريد السلام على أساس حل الدولتين لتقوم فلسطين مكان الاحتلال. وهي، في ما تنطوي عليه من عنف، تضعف عمداً أو سهواً صفوف الاعتدال على الساحة العربية وتقوّض جهودها الرامية الى التعايش مع اسرائيل على أساس انهاء الاحتلال. ثم ان اطلاق بيريز وويزل هذه الاستراتيجية الخطيرة ذات النيات السيئة من مؤتمر البتراء يعكس عجرفة فوقية تفتقد أدنى درجات التقدير والاحترام لمضيف المؤتمر الملك عبدالله الثاني، الذي يدفع تكراراً نحو التعايش والتسامح والاعتدال والتغيير من أجل منطقة أفضل وعالم أفضل ويأخذ من انهاء الاحتلال ركيزة. بعض المشاركين من العلماء في مؤتمر البتراء حاول اصلاح ما أفسده ويزل في مواقف علنية كي لا يعطي الانطباع بأن الحائزين جائزة نوبل ينتمون الى هذا المعسكر المتطرف عملياً، وفي نهاية المطاف، بعض منهم احتج لدى ويزل بعيداً عن الأضواء وأبلغه صراحة بامتعاضه مما فعل. وحقيقة الأمر أنه لا يجوز الغاء فوائد مؤتمر الحائزين جائزة نوبل للسلام بسبب حماقة سياسية أو حتى بسبب سوء نيات وتقدير الشريك في تنظيم المؤتمر، ايلي ويزل. فهذه مجموعة مميزة من كبار العقول لها تأثير ووطأة على الرأي العام العالمي ومن الضروري الاستفادة منها مهما وقع من اخطاء أو محاولات تسريب وتهريب لاستراتيجية الغاء مصطلح الاحتلال. وما استضافة الأردن لهذا المؤتمر السنوي سوى دليل على الفكر التجددي والخلاّق في ورشة التغيير المتعددة والمتنوعة والرافضة لأنماط الالغاء المتنوعة والمتعددة، من الغاء الآخر الى الغاء واقع ومصطلح الاحتلال. فإطلاق الطاقات في بوتقة التنوع والتعددية بالاستفادة من التنوع والتعددية على الساحة العربية تحد لا يقتصر على عنوان للتجمع العالمي للمنتدى الاقتصادي في البحر الميت اليوم وانما هو ورشة اصلاح. ورشة اصلاح ليس فقط لتحديات عربية - عربية وانما ايضاً لانطباعات دولية واقليمية تنطلق من الاعتقاد ان الجيل العربي الجديد جاهل أو نائم أو قابل للاستغفال. واقع الأمر ان مثل هذه الافتراضات يعكس قمة السذاجة. فهذه ورشة الاستفاقة.