لن أشبّه بلير بكلب مدلّل بودل كما تفعل الصحافة البريطانية وهي تصف تبعيته الذليلة للرئيس جورج بوش، وإنما أصفه ببقرة حلوب ملأت وعاء كبيراً بما درّت، ثم ركلته برجلها وضاع الحليب في التراب. رئيس وزراء بريطانيا سقط في تراب العراق أو وحله، وضاع الإرث الذي سعى اليه وكاد يحققه. عندما جاء بلير الى الحكم سنة 1997 رفع شعار إصلاح التعليم، ثم طلب إصلاح الخدمات الاجتماعية الوطنية، من صحية وغيرها، ثم انضم الى جورج بوش في الحرب على الإرهاب، وعندما زاد الإرهاب ولم ينقص، حمل بلير راية حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وهو أخيراً تحدث عن مكافحة الفقر، خصوصاً في أفريقيا. هذه كلها سياسة انتهازية ومواقف انتخابية فارغة من أي محتوى، الا ان سنوات بلير شهدت انجازاً حقيقياً في المجال الاقتصادي، فقد تقدم الاقتصاد البريطاني في شكل مطرد، وبقيت معدلات التضخم محدودة والبطالة منخفضة. يستطيع غوردون براون، خليفة بلير المتوقع، ان يدعي لنفسه الفضل في حسن أداء الاقتصاد بصفته وزير الخزانة، إلاّ انه سيحمل معه حقائب أخرى ليست له تغطي على هذا الانجاز. أهم إنجاز لتوني بلير تحقق قبل أيام من اعلانه انه سيترك رئاسة الوزارة في 27 من الشهر المقبل، فالاتفاق على المشاركة في السلطة بين اعداء تاريخيين في ايرلندا الشمالية هو إنجاز كبير بكل المقاييس، بعد نزاع استمر حوالى 50 سنة، وشهد عنفاً وإرهاباً من مستوى شرق أوسطي. لا أبخس توني بلير شيئاً من حقه، بل أزيد دوره في كوسوفو وسيراليون، إلا أنني في النهاية أحاسبه على تحالفه مع جورج بوش وشراكة بريطانيا وأميركا في الحرب على العراق، وهي حرب جرّت ويلات على الشعب العراقي، وأوجدت أوضاعاً أسوأ من حكم صدام حسين، مع ما يبدو من استحالة ذلك. في سنة 1990 لم افهم سر تأييد أبو عمار صدام حسين، وفي سنة 2003 لم أفهم دخول بلير الحرب على العراق الى جانب بوش، فرئيس وزراء بريطانيا ذكي بإجماع الآراء، وذكاؤه كان يجب أن يمنعه من خوض حرب غير مبررة الى جانب رئيس جاهل متطرف تديره عصابة حرب معروفة لأسبابها الخاصة. أفهم ان يؤيد بلير الولاياتالمتحدة كلها بعد ارهاب 11/9/2001، وأفهم ان يسير مع الأميركيين في الحرب على"طالبان"في أفغانستان، غير انني لا أفهم بعد ذلك كيف يورّط بلير نفسه في حرب العراق، بل يسعى اليها بقدميه. كل سياسي بريطاني أعرفه، وقد صرح بلير بمثل ذلك غير مرة، يقول إن وثوق الصلة البريطانية بالسياسة الأميركية هدفه تخفيف هذه السياسة والحد من شوائبها. هذا تبرير العاجز في أفضل الاحوال، غير انه بالنسبة الى بلير شخصياً كذب كامل فهو لم يخفف من غلواء السياسة الأميركية، وإنما أدّى تأييده الأعمى لها الى زيادة في تطرفها. وفي حين أننا نذكر جميعاً أن جورج بوش قال في خطابه عن حالة الاتحاد في كانون الثاني يناير 2003 إن العراق سعى الى الحصول على يورانيوم من النيجر، فإن أكثرنا ينسى أن المعلومات الكاذبة وصلت الى الأميركيين من طريق حكومة بلير، بعدما كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية التقليدية أبلغت البيت الأبيض أن ليست عندها معلومات تثبت هذه المزاعم. أيضاً ينسى أكثرنا ان ملف الاستخبارات المشهور الذي أعدّته حكومة بلير سنة 2002 كان مبالغاً فيه، ويضم معلومات زائفة، أو"محسنة"و"مزيدة"، وقد عوقبت هيئة الاذاعة البريطانية عندما قالت إن معلومات الاستخبارات البريطانية مبالغ فيها، وثبت في النهاية ان"بي بي سي"صادقة، كالعادة، وحكومة بلير، تكذب كالعادة أيضاً. أغرب ما في موضوع الكذب والمبالغة أن ادارة بوش وجدت من يحاسبها في حين أن حكومة بلير نجت حتى الآن من أي محاسبة، مع أن هناك أدلة كافية لتحويل المتهمين الى القضاء. كنتُ اتهمت بعض أركان ادارة بوش، خصوصاً من المحافظين الجدد، بالسعي الى حرب على العراق لحماية أمن اسرائيل وقتل أكبر عدد ممكن من العرب والمسلمين، ولا سبب عندي لتوجيه مثل هذه التهمة الكبيرة الى توني بلير، ولكن أقول إن سياسته الخارجية ألحقت أكبر ضرر بمصالح العرب والمسلمين، ما لن أغفره له أبداً. كنتُ وضعت بلير في قفص الاتهام بعد تدهور الأوضاع في العراق، خصوصاً انه لم يعترف حتى الآن بالخطأ أو يعتذر. وجاءت حرب الصيف على لبنان لتكون القشة الأخيرة في موقفي منه، فهو أيّد مرة أخرى ادارة بوش وهي تعارض وقف إطلاق النار، اعتقاداً منها أن اسرائيل ستفوز، فكان أن خسرت اسرائيل أمام ميليشيا محلية لا جيش نظامي، وخسر بلير ما بقي من سمعته معها. غوردون براون سيخلف توني بلير، وهو على رغم أدائه الاقتصادي الممتاز، سيجد نفسه يحمل حقائب ليست له، فقد ترك توني بلير لخلفه تركة ثقيلة، وأرجح ان يخسر العمال الانتخابات المقبلة، وأرجح ان اسرّ برحيلهم.