عندما يقف رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير في 29 من الشهر الجاري أمام لجنة التحقيق في حرب العراق للإدلاء بشهادته فإنه لن يجد، كما يتوقع الكثيرون، صعوبة في التخلص من الأسئلة ومن الإحراجات. فحتى الآن بدت التحقيقات والاستجوابات التي قامت بها اللجنة أشبه ما تكون، كما وصفها سايمون جينكينز في صحيفة «الغارديان» (9/12/2009) الصادرة في لندن ب «الدردشة في ناد في وايتهول (مقر وزارات الحكومة البريطانية)»! ولو أن بلير صرح قبيل الحرب بأن الغاية منها هي تغيير النظام في العراق لأنه «أسرف في اضطهاد مواطنيه وقمع معارضيه على نحو لم تمارسه أية حكومة أخرى في العالم»، لما وجدت حكومة غوردون براون أساساً حاجة الى تشكيل لجنة التحقيق التي تدعى لجنة تشيلكوت. بيد أن براون شعر بالحاجة الى تشكيل هذه اللجنة بعد أن تنامت الأدلة والإثباتات على أن بلير خدع الرأي العام والنواب وحزب العمال والجسم السياسي البريطاني، ولعب دوراً رئيسياً وشخصياً في إطلاق كذبة «خطر صدام على بريطانيا» وفي الترويج لها. كما أن حكومة براون شعرت بالحاجة الى تشكيل اللجنة لأن كذبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل قدمت كمبرر حاسم لانضمام بريطانيا الى معسكر الحرب. فالكذب- وهو الأمر الرئيسي الذي تنظر فيه لجنة تشيلكوت- هو بالنسبة الى البرلمان معصية كبرى لا يستطيع البريطانيون السكوت عنها. لو قال توني بلير لملايين البريطانيين الذين خرجوا يتظاهرون ضد الحرب على العراق بأن تغيير النظام في بغداد هو الغاية من الحرب وليس العثور على أسلحة الدمار الشامل وتدميرها، لتغيرت النظرة إليه، حتى ولو لم تتغير المواقف تجاه الحرب. بالعكس، لوجدنا احتراماً له حتى بين أشد المعارضين للحرب، ولوجدنا تفسيراً لهذه المفارقة في النظام السياسي البريطاني نفسه. فالمزاج الديموقراطي البريطاني هو مزاج مضاد ل «الشعبوية» وللنهج الاستفتائي. والديموقراطية البريطانية - ولنقل الانغلو ساكسونية - هي «ديموقراطية بيركية»، نسبة الى المفكر والنائب البريطاني ادموند بيرك الذي خاطب ناخبيه في مدينة بريستول خلال القرن الثامن عشر بقوله: «أقدر رأيكم أعظم تقدير، ويسعدني أن التقي بكم في أي وقت، وأن استمع الى اقتراحاتكم في أي موضوع... وللحصول على هذا الشرف العظيم، فأنا مستعد للتخلي عن راحتي الشخصية وعن كل ما أملك باستثناء أمر واحد ألا وهو رأيي واجتهادي وضميري، فهذا ما لا أستطيع التضحية به مهما كان الثمن... إنني مدين لكم بما أفعل وبمقدار ما أبذله من جهد وبمتابعتي لما يحصل في البلاد، ولكن فوق كل شيء لكم في عنقي أمانة هي أن التزم بما اقتنع به وبصدق الرأي والاستقامة في التعبير عن اجتهادي». النظام السياسي البريطاني يعطي رئيس الحكومة صلاحيات شبه مطلقة. زعيم الحزب الحاكم في نظام وستمنستر الديموقراطي هو، شاء البريطانيون أم أبوا، أشبه بالحاكم في النظام الرئاسي أو حتى في النظام المطلق. انه يبسط زعامة واسعة على الحزب الحاكم، وبواسطته على البرلمان. وفي الوقت الذي يحرص نظام وستمنستر على توفير كافة أسباب الحرية للمواطنين للتعبير عن رأيهم عبر التظاهرات والتحركات السلمية الأخرى، فان الفصل في نهاية الأمر ليس للمتظاهر بل هو للناخب. ولو أفاد توني بلير من هذه الميزة، أي لو تصرف كزعيم لحزب الغالبية فحسب واتخذ قرار الحرب بالاستناد الى الأكثرية البرلمانية - هذا إذا توافرت له هذه الأكثرية - لما كانت هناك حاجة الى المحاسبة والى لجنة التحقيق. بيد أن التهمة التي لا مهرب من التحقيق فيها هي تهمة الخداع. عامل الجسم السياسي البريطاني زعماء خدعوا الرأي العام والبرلمان بقسوة شديدة. هذا ما حدث على سبيل المثل لجوناثان ايتكن، وزير الدفاع البريطاني الأسبق عام 1999 لأنه أخفى عن السلطات المعنية أمر قبوله دعوة من ثري عربي للإقامة بضعة أيام في فندق «ريتز» في باريس، وحاول أن يضلل التحقيق والقضاء بالزعم أن زوجته دفعت مصاريف إقامته في الفندق، غير أن التحقيقات أظهرت انها كانت وقتها في جنيف وليس في باريس. لقد حُكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف، وخسر منصبه الوزاري ومكانه في حزب المحافظين وضاع مستقبله السياسي وقد كان أحد المرشحين لزعامة الحزب ورئاسة الحكومة. بالمقارنة مع ايتكن، كيف يعامل النظام السياسي البريطاني شخصاً قاد الأمة الى حرب كارثية عبر سياسة التدليس؟ كيف تعامل لندن رئيس حكومة ساهم في إضعاف «الحرب على الإرهاب الدولي»، لأنه حرفها عن استهداف المقر الرئيسي للإرهاب في أفغانستان، كما لاحظ محللون كثيرون؟ يؤكد متابعون لأعمال لجنة التحقيق البريطانية مثل الصحافي نيك كوهن (الأوبزرفر 17/1/2010) انها لن تسفر عن شيء يذكر وانها لن تنال من توني بلير. صحيح أن التحقيقات أثبتت أن بلير أخفى الحقائق عن البريطانيين ووعد بوش بالانضمام الى القتال في الوقت الذي كان يؤكد للبريطانيين انه ينتظر نتائج المداولات في الأممالمتحدة وتحقيق لجان الكشف عن أسلحة الدمار الشامل. ولكن من المؤكد أن بلير لن يعامَل كما عومل ايتكنز ولن يدخل السجن أو يتعرض للإذلال. فقبول دعوة ثري عربي لقضاء بضعة أيام في فندق «ريتز» من وراء ظهر حكومة لندن جريمة لا تغتفر، أما تدمير العراق فقد يكون جريمة، ولكنها جريمة فيها نظر. وما عدا ذلك فان الذين دمروا العراق حرصوا على مكافأة بلير بكل وسيلة. أول مكافأة تلقاها بلير هي الاتفاق على تعيينه ممثلاً للرباعية الدولية (الولاياتالمتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسياوالأممالمتحدة) في محادثات الشرق الأوسط. تم اتخاذ هذا القرار، بصورة مشتركة بين جورج بوش وايهود اولمرت في 19 حزيران (يونيو) 2007، أي قبل أسبوع من تقديم بلير استقالته من رئاسة الحكومة. هذه المكافأة فتحت الباب أمام سلسلة من المكافآت الأخرى الجزيلة. نظرياً، بلير لا يتقاضى مرتباً لقاء وظيفته هذه. ولكن هذا المنصب الذي طلبه بلير ساهم في تمكينه من الحصول على مبلغ ستة ملايين وستمئة ألف جنيه إسترليني من أموال دافعي الضرائب البريطانيين كنفقات حماية وأعمال إدارية لمندوب الرباعية الدولية ووسيط السلام بين العرب والإسرائيليين. هذه الأموال التي سمحت له بتعيين فريق من المساعدين والحراس والمرافقين وأعادت لبلير سمة «السوبر ستار» في السياسة الدولية، وفتحت له باب الادعاء بانه خبير في شؤون المنطقة العربية ومن أهل المعرفة بواقعها ومستقبلها. بلير هذا الذي لم يظهر تفوقاً في أدائه الأكاديمي والمهني الذي سبق احترافه السياسة، بات يطلق على نفسه صفة المستشار في «القضايا الاستراتيجية العالمية»! وبهذه الصفة التي انتحلها بعد تعيينه مندوباً للرباعية الدولية، وبفضل صلاته المفترضة بالمنطقة العربية، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بالأقوياء والأثرياء من أمثال روبرت مردوخ وسيلفيو برلوسكوني، صار بإمكان توني بلير الحصول على أرباح طائلة عبر المكتب الاستشاري الذي أنشأه في لندن («صاندي تايمز» 20/12/2009). إن لجنة تشيلكوت لن تدين، كما قلنا أعلاه، توني بلير. حتى إذا أدانته، فان لتوني بلير أرباباً يحمونه ويردون عنه الضرر ويحافظون عليه لكي يستمر في ممارسة دور حصان طروادة على المسرح العالمي. كان بلير ثاتشرياً داخل حزبه العمالي، وقومياً بريطانياً متعصباً داخل الاتحاد الأوروبي. المقابلة القريبة التي ستجريها لجنة تشيلكوت مع رئيس الحكومة البريطانية السابق لن تضيف الى معرفتنا بهذا الدور القديم - المتجدد شيئاً كثيراً. ذلك أن توني بلير أصبح كما وصفه نورمان بيكر النائب البريطاني عن حزب الأحرار الديموقراطيين، «فضيحة وطنية» («دايلي تلغراف» - 16/1/2010). أما مندوب الرباعية الدولية الى مفاوضات الشرق الأوسط، المنحاز كلياً الى إسرائيل كما يقول عنه انتوني سلدون في كتابه «بلير»، فانه سوف لن يتردد في استخدام شطاراته المعهودة بغرض محاصرة الفلسطينيين والعرب ومساعدة أصدقائه الإسرائيليين على فرض التنازلات الجائرة عليهم. في ظل ذلك كله، وفي ظل السقوط الأخلاقي الذي يمثله توني بلير، فان إبعاده عن الرباعية الدولية يصبح حاجة عربية لا تقبل التأجيل. * كاتب لبناني