سجل توني بلير في يوم عيد ميلاده سابقتين في السياسة البريطانية، فهو انتزع نصراً تاريخياً بفوز العمال للمرة الثالثة على التوالي، غير ان النصر جاء بأقل نسبة من اصوات الناخبين لحزب فائز في تاريخ الانتخابات النيابية البريطانية. وكان يمكن رئيس الوزراء ان يكرر النصر الساحق الذي حققه في 1997 و2001، الا ان الحرب على العراق اصابته شخصياً، ولولا حسن اداء الاقتصاد وعجز المحافظين عن تقديم بديل افضل لاختلفت النتيجة تماماً. النائب العمالي المتمرد جورج غالواي خاض الانتخابات عن حزب الاحترام الذي اسسه بعد طرده من حزب العمال، ووجه صفعة الى بلير والحزب بالفوز على المرشحة العمالية اونا كنغ في منطقة بثنل غرين اند بو من لندن. وهو جعل الحرب على العراق اساس حملته، ودعا بعد فوزه حزب العمال الى طرد بلير واتهمه بالقتل والكذب. الكذب سيلتصق ببلير حتى نهاية حياته السياسية، ومن سوء حظه ان وضع حرف مكان حرف في اسمه يجعل معنى الاسم بالانكليزية"كذاب"، ورفع الاسم المقلوب على لافتات في طول البلاد وعرضها، ولم تبق جريدة في البلاد، وحتى في الولاياتالمتحدة الا وأشارت الى موضوع الكذب. وفي يوم الانتخابات كان عنوان احدى صحف لندن"أبناؤنا ماتوا من اجل كذبة"، وحملت جريدة اخرى صورة لبلير وقد طال انفه بعرض الصفحة الاولى كلها، اشارة الى انه كذاب مثل بينوكيو في الخرافة الذي كان انفه يطول كلما كذب. ولم يستطع المحافظون الجدد انفسهم الدفاع عن بلير على رغم دوره الى جانب جورج بوش في الحرب على العراق، وماكس بوث سأل في"لوس انجليس تايمز"اذا كان بلير كاذباً، وأضاف ان البريطانيين لا يهمهم ذلك هو في الواقع يهمهم الى درجة ان تهبط غالبية العمال من نحو 160 مقعداً الى 66 مقعداً. اما جيرارد بيكر في"ويكلي ستاندارد"فوصف بلير بأنه"محتقر لكن ناجح". وفي النهاية عبر غلافان في مجلتين راقيتين عن روح الانتخابات كلها. فمجلة"تايم"قالت:"لا تذكروا الحرب"، ومجلة"الايكونومست"قالت:"للأسف لا يوجد بديل". وهكذا فالحرب كانت"قدم اخيل"لبلير، ولكن انقذه غياب البديل. فالزعيم المحافظ مايكل هوارد من مخلفات الماضي، وهو بعد ان ثبت كذب بلير في موضوع شرعية الحرب قال انه كان سيؤيد قرار الحرب على رغم كل شيء ما افقده القدرة على استغلال اخطاء بلير لفائدة حزبه. السؤال الآن، وقد طرحه معلقون كثيرون، هو متى يسلم بلير الدفة لوزير الخزانة غوردون براون، وهو الرجل الذي ضمنت سياسته الاقتصادية نجاح الحزب في الانتخابات. بلير قال انه يريد ان يكمل ولاية ثانية، الا انه"مجروح"والحزب فاز على الرغم منه لا بفضله، فقد اصبح حجر رحى في عنق الحزب بسبب كذبه المفضوح. وكنت في الاسبوع الاخير من حملة الانتخابات سألت نفسي لماذا يريد أي رجل ان يطلب عملاً تكال له فيه الاهانات من كل حدب وصوب، ويحقر ويتهم بجرائم، ويوصف بأسوأ النعوت. غير ان السياسي، في الشرق والغرب، لا يستحق اسمه اذا لم يكن سميك الجلد قليل الاحساس او عديمه. ورأيت بلير يكذب حتى النهاية، وهو في مقال كتبه في جريدة"الاندبندنت"قال ان الانتخابات ليست عن الحرب او عنه. كيف هذا؟ هل هي عني أنا؟ هو قرر ان يخوض الحرب الى جانب اميركا على اساس ملف استخبارات مبالغ فيه، وعلى اساس نصح من المدعي العام تبين عشية الانتخابات ان الملخص الذي قدمه بلير في حينه الى الحكومة لا يعكس حقيقة النص الكامل الذي حذر من احتمال ان تكون الحرب غير شرعية. قرار بلير هذا ادى الى مقتل 88 جندياً بريطانياً حتى الآن وجرح مئات آخرين ونحن لا ننسى عشرات ألوف الضحايا العراقيين الأبرياء، وأهالي الضحايا بدأوا يهددون برفع قضية ضد بلير امام المحاكم، لأنهم اذا استطاعوا ان يثبتوا ان الحرب غير شرعية فرئيس الوزراء سيتحمل نتائجها. لذلك اصبح السؤال متى يسلم بلير رئاسة الوزارة الى غوردون براون، جاره في 11 دواننغ ستريت، وليس هل يسلمها له؟ بالنسبة الينا عرباً ومسلمين وقضايا من فلسطين الى العراق، لا تغيير متوقعاً مع بلير في ولايته الثالثة، او مع براون اذا خلفه، او مع المحافظين لو عادوا. اكثر ما يمكن ان يقال عن السياسة الخارجية البريطانية ازاء القضايا العربية هو انها افضل من السياسة الاميركية، الا انها ليست افضل بكثير، ولندن تحاول مساعدة الفلسطينيين وتلعب دوراً مع الدول الاخرى في الاتحاد الاوروبي، الا انها في المحطات المهمة تلتزم الموقف الاميركي الذي يلتزم الموقف الاسرائيلي. وعلى الاقل فسيكون هناك صوت قوي في البرلمان الجديد ضد بلير وضد الحرب، لأن جورج غالواي سيعود لينتقم، وهو كان دائماً شوكة في خاصرة رئيس الوزراء، وعاد شوكة أشدّ مضاء. وفي حين ارفض تأييد غالواي صدام حسين ودفاعه عنه، فإنني أؤيد موقفه من بلير والحرب، كما فعل الناخبون في دائرة نصف سكانها من المسلمين.