بات لبنان مفتاحاً أساسياً في العلاقة الاقليمية والدولية بكل من ايران وسورية. فحلقة الإجماع على إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية اقتربت من الاكتمال على رغم كل جهود دمشق لتعطيل إقامة المحكمة. ومراقبة الحدود السورية - اللبنانية لمنع استمرار خروقات حظر الأسلحة عبر هذه الحدود بدأت تأخذ طريقها الى مجلس الأمن الدولي. وإجبار ايران على وقف تصدير الأسلحة الى"حزب الله"أو الى أي كان لاقى إجماعاً بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. هناك الآن ابلاغ أوروبي رسمي الى دمشق بأن طريق إعادة تأهيلها دولياً يمر حتماً عبر لبنان ومواقفها من المحكمة الدولية والحدود اللبنانية والحوار اللبناني - اللبناني. وهناك ابلاغ اقليمي الى القيادة السورية بأن لا مجال على الاطلاق لتفادي المحكمة وأن لا غطاء عربياً أبداً لمحاولات منع قيامها إما بتخريب لبنان أو عبر حلفائها فيه من لبنانيينوفلسطينيين. ويوجد الآن ابلاغ دولي على مستوى الأمين العام الجديد بان كي مون بأنه بالغ الجدية في اصراره على ايران وسورية واسرائيل و"حزب الله"والفصائل الفلسطينية والمتطرفين الاسلاميين الذين أخذوا من المخيمات الفلسطينية في لبنان ملاذاً آمناً، ان عليهم جميعاً الانصياع للقرارات الدولية التي تدعم الحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً، وتحظر تسريب السلاح الى الميليشيات التي تقضي القرارات الدولية بنزع سلاحها، وتصر على إنشاء المحكمة الدولية كي لا تمضي الاغتيالات السياسية بلا معاقبة. وأخيراً، هناك ابلاغ بالاجماع من مجلس الأمن الدولي الى ايران بأنها ستبقى إلزاماً، تحت الفصل السابع من الميثاق، خاضعة لعقوبات تعزلها وتؤذيها اقتصادياً مهما تظاهرت طهران بأنها لا تبالي. فايران وسورية بدأتا تشعران بتضييق الخناق عليهما بشبه إجماع دولي واقليمي، وبدأتا تدركان أن تطويق احداهما وخطب ود الأخرى - وان مرحلياً - قد يؤدي الى تفكيك تلك العلاقة الاستراتيجية، بالذات بقرارات من المؤسسة الحاكمة في طهران. وتدرك القيادة الايرانية تماماً معنى إجماع الصينوروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا على إبقاء ايران في حظيرة العقوبات شأنها شأن سيراليون والسودان و"القاعدة"و"طالبان". وتدرك، ولا تعترف، ان العقوبات مهما بدت سطحية وضعيفة قد أدت حقاً الى الحاق الأذى الكبير بالاقتصاد الايراني. وهذا مكلف جداً لاقتصاد ضعيف في عهد قيادة جورج بوش الاستفزازية التي أرسلت ثلاث حاملات طائرات حربية اميركية الى مضيق هرمز استعداداً لضرب حصار يمنع تصدير النفط الايراني، إذا اقتضت الحاجة. المؤسسة الحاكمة في ايران بدأت محاولات عديدة للجم الرئيس محمود أحمدي نجاد، منها على الصعيد الاقليمي وبالذات من خلال محادثات مهمة مع المملكة العربية السعودية، وبعضها على صعيد الملف النووي المطروح في الساحة الدولية، علماً أن مجلس الأمن في نيويورك يتناول المسألة النووية الآن بعدما رفضت طهران الانصياع لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومقرها فيينا. الآن، تحاول ايران تكراراً إعادة الملف الى فيينا وتقدم استعدادات وضمانات لم تقدمها سابقاً. انما فات الاوان. فلن تتمكن طهران من اخراج الملف من نيويورك حيث تخضع للعقوبات بموجب قرار لمجلس الأمن في ظل الفصل السابع من الميثاق. وهذا تماماً ما تحاول القيادة الايرانية التعافي منه ونفضه عنها، لكنها زجّت نفسها في زاوية ضيقة بسبب رفضها تلبية شرط تعليق تخصيب اليورانيوم مقابل تعليق العقوبات. وما تتجه إليه الدول الكبرى الآن وسيبّت فيه مجلس الأمن قريباً، هو مشروع قرار جديد يعزز العقوبات التي تشمل اضافة اسماء جديدة ومؤسسات ايرانية الى قائمة الذين يخضعون لعقوبات وتعاقب مسؤولين في الحكومة الى جانب الحرس الثوري. المفاوضات مستمرة، انما الاتفاق على مبدأ إخضاع ايران لعقوبات اضافية يلقى الاجماع، أي انه يلقى موافقة روسياوالصين على الاستمرار بمعاقبة ايران. حسب مشروع القرار، هناك ناحية ذات بعد اقليمي هدفها احتواء طموحات ايران الاقليمية وليس فقط النووية منها. هناك اشارة الى حظر إلزامي يفرض على طهران عدم توفير أو بيع أو نقل أية أسلحة من اراضيها أو عبر مواطنيها، مباشرة أو غير مباشرة. وهناك اشارة في مشروع القرار تؤكد واجبات كل دولة ان تقدم كل إعانة متبادلة لضمان تنفيذ الاجراءات التي يقرها القرار. هذا يعني ان مجلس الأمن، عندما يتبنى هذا القرار، سيفرض على ايران عدم بيع أو تسريب الأسلحة الى أية تنظيمات أو منظمات أو أفراد أو كيانات، في العراق أو فلسطين أو لبنان. يعني ان على الدول إلزاماً أن تقدم المساعدات المتبادلة لضمان تنفيذ هذا البند، أي على سبيل المثال، في حال محاولة ايران مد"حزب الله"بالمزيد من الصواريخ والأسلحة، يحق للدول أن تساعد الحكومة اللبنانية على ضمان عدم وصول هذه الأسلحة الى"حزب الله". يعني أيضاً أن عقوبات اضافية ستفرض على طهران في حال محاولات خرقها الحظر على صادراتها العسكرية. هذا في ما يخص ايران وتطويق اعتزامها تصدير الأسلحة الى"حزب الله"في لبنان. ولأن هذه الأسلحة تعبر الحدود السورية - اللبنانية وتخرق بدورها الحظر المفروض على تسريب الأسلحة الى أي فرد أو كيان في لبنان باستثناء الحكومة اللبنانية بموجب القرار 1701، هناك توجه في مجلس الأمن الدولي الى تضييق الخناق على دمشق لمنعها من الاستمرار في ضخ الأسلحة الى الساحة اللبنانية، الى"حزب الله"، الى الفصائل الفلسطينية، وكذلك الى اسلاميين متطرفين تابعين لشبكة"القاعدة"وأمثالها. وهذا يشغل بال المحور الثلاثي الذي يضم طهرانودمشق و"حزب الله"، ليس فقط من ناحية محاولات تطويق هذا المحور دولياً واقليمياً، وانما أيضاً من إمكانيات تأثير التطويق على الأطراف الثلاثة بما يؤدي الى استغناء ايراني عن دمشق والى قرار طهران باحتواء ولجم"حزب الله". الأمين العام للأمم المتحدة اقترح على مجلس الأمن اتخاذ خطوات جديدة لضمان الحظر على الأسلحة الذي فرضه القرار 1701 وقال في تقرير يناقشه مجلس الأمن اليوم:"قد يرغب مجلس الأمن في النظر في دعم مهمة تقويم مستقلة تدرس المراقبة على الحدود"السورية - اللبنانية. أي، ان بان كي مون يحض مجلس الأمن على ايجاد وسائل لمراقبة دولية للحدود اللبنانية - السورية تؤدي الى وضع حد لتسريب الأسلحة كما تؤدي الى تهيئة ملفات تدين وتعاقب من ينتهك ويخترق الحظر. لكن هذا الحظر لن يحول دون اقتتال داخلي في حرب أهلية إذا اتخذت قيادات"حزب الله"القرار باطلاق مثل هذه الحرب. فالأسلحة المتوافرة لدى"حزب الله"والتي تلقاها في الفترة الأخيرة ليست من النوع الذي يحتاجه لحرب مع اسرائيل وانما هي من النوع الذي يستخدم في حرب داخلية. الطوق الذي يُضرب دولياً هدفه احتواء احتمالات اندلاع حرب جديدة بين"حزب الله"وإسرائيل، لأن الأخيرة توعدت بتدمير لبنان والانتقام منه إذا لم تتخذ الحكومة اللبنانية والأسرة الدولية الاجراءات لمنع"حزب الله"من استدراجها الى حرب ومنعه من الحصول على أسلحة جديدة تؤمنها له إيران عبر الحدود السورية - اللبنانية. ثم هناك ناحية القوات الدولية التي تعمل في إطار قوة الأممالمتحدة المعززة في لبنان يونيفيل 2، إذ أن بعض الدول المساهمة في القوة أوضح أنها لن تغامر بجنودها في وضع هش كالذي يسود لبنان، لا سيما عبر حدوده. ولذلك توجد حركة في مجلس الأمن نحو تشديد المراقبة على الحدود وتضييق الخناق لمنع تسريب السلاح لأي كان في لبنان سوى للحكومة الشرعية والجيش اللبناني والقوات الدولية. بان كي مون شدد تكراراً في تقريره الأخير حول تنفيذ القرار 1701 على ضرورة دعم وتمكين الجيش اللبناني وقوى الأمن كنقطة مركزية، ودعا الاسرة الدولية لتقديم المساعدة الملموسة ومضاعفتها للقوات المسلحة اللبنانية. تطرق إلى مسألة تسريب الأسلحة، وقال إن هناك معلومات جوهرية ومفصلة تبيّن هذا التسريب، واقترح تشكيل"فريق عسكري مستقل"للتحقق من صحة ذلك. حض سورية وإيران بالذات على ضمان احترام حظر السلاح، ودعا الحكومة السورية الى اتخاذ خطوات ضرورية لترسيم الحدود بين لبنان وسورية، وهذا ما تطالب به الحكومة اللبنانية تكراراً منذ أكثر من سنة. كذلك، تناول بان كي مون قضية مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل والتي تقول سورية إنها أراضٍ لبنانية، على رغم أن الأممالمتحدة وضعتها عام 2000 ضمن الأراضي السورية عندما قامت بمسح جغرافي من أجل تنفيذ القرار 425 لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية. فالتقرير يفيد أن تقدماً جيداً تم احرازه في تعريف موقع مزارع شبعا، وأن هناك وثائق"جديدة"لم تكن في حوزة خبراء المسح الجغرافي عام 2000. وبحسب بان كي مون سينتهي خبراء المسح من عملهم منتصف حزيران يونيو، وهناك جدول زمني للتعاطي مع النتائج حسبما تقتضي. ففي حال أثبتت الوثائق أن هذه المزارع لبنانية، تقع المسؤولية حينذاك على إسرائيل للانسحاب منها وإعادتها الى لبنان بدلاً من استمرار انتماء المزارع للسيادة السورية، ما يجعل مسألة استعادتها من إسرائيل خاضعة للقرار 242. حتى الآن لم تتجاوب سورية مع طلب الأممالمتحدة تزويدها بالوثائق التي تدعم قولها إن هذه المزارع لبنانية. ومن الآن حتى حزيران سيتبيّن بوضوح إن كانت هذه المزارع لبنانية، أو إذا كانت سورية اختلقت بدعة اعتبارها لبنانية لتبرير استمرار"حزب الله"بالمقاومة بدلاً من ترك تحريرها للدولة اللبنانية. المهم أن بان كي مون يضغط ليس فقط على سورية في هذا الأمر، وإنما أيضاً على إسرائيل، وهذا ما أثار غضب وزيرة الخارجية تسيبي ليفني بسبب اعطاء مزارع شبعا هذه الأهمية في التقرير عن تنفيذ القرار 1701. كما أن الأمين العام لام إسرائيل أيضاً على خروقات وانتهاكات"الخط الأزرق"الذي يشكل حدود الأمر الواقع حالياً بين لبنان وإسرائيل، ولام أيضاً"حزب الله"على خروقاته للخط الأزرق. أكد أن صون استقرار لبنان يتطلب بالضرورة تنفيذ قرارات مجلس الأمن القاضية ب"نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة"في لبنان. ودعا الى"المساعدة الملحة"لقوات الجيش اللبناني في التصدي للخطر الناتج عن توغل"متطرفين إسلاميين"في المخيمات الفلسطينية في لبنان واستخدامها ملاذاً آمناً استعداداً لضرب الاستقرار اللبناني. بكلام آخر، إن الأمين العام الجديد جاد في مواقفه نحو الملف اللبناني، وجدي في ابلاغه رسائل حازمة الى جارتي لبنان، سورية وإسرائيل، وكذلك إلى إيران. فقد ترك سلفه الأمين العام السابق كوفي أنان منصبه وهو يهدي علامات جيدة لطهرانودمشق على تعاون ووعود"مشجعة"، حسب قوله، لكنها بقيت وعوداً لم يكشف عنها أنان ولم تنفذها القيادتان السورية والإيرانية. بان كي مون يتوجه إلى منطقة الشرق الأوسط الأسبوع المقبل في جولة تستثني سورية وإيران، عكس ما حرص أنان عليه في كل جولاته على المنطقة التي شملت دمشق دائماً كلما كان يزور مصر والأردن ولبنان وإسرائيل. رسالة بان كي مون واضحة جداً الى القيادة السورية عنوانها: نفذوا القرارات المتعلقة بلبنان. ورسالته إلى إيران بالقدر نفسه من الجدية وفحواها أن العالم يراقب طهران ليس فقط من ناحية طموحاتها النووية، وإنما ايضاً من زاوية افعالها اقليمياً، لا سيما في لبنان. فلقد تحول لبنان الى امتحان لسورية وإيران بشبه اجماع عربي واقليمي ودولي. ولذلك فالكلام عن صفقات تضحي بالمحكمة الدولية هو بكل تأكيد كلام فارغ. فالمحكمة آتية والمراقبة آتية ومنع تسريب المزيد من الأسلحة دخل خانة نوعية جديدة.