لاعلاقة للتشاؤم والتفاؤل في تقويم الخطة الامنية لبغداد التي بدأتها القوات الأميركية والعراقية أخيرا لتحقيق الامن والاستقرار في العاصمة العراقية، كما لا أهمية للمواقف الغوغائية التي تلخصها ثنائية الاحتلال والمقاومة، التي ظلت تعطل الوصول الى حل يفضي الى إنهاء المأزق الذي وضع فيه العراق منذ الغزو الأميركي. الامر كله يتعلق بوجود خطة محكمة ومفصلة تساعد على استعادة العراق لكيانه ووحدته الترابية واستقلاله، وتنقذ أهله من الكابوس الدامي الذي يعيشون تحته منذ ما يقرب من اربع سنوات، كما تساعد الادارة الأميركية على الخروج من المستنقع الذي وقعت فيه بسبب الاخطاء المتكررة التي ارتكبتها قبل وبعد احتلالها للعراق. كان الخطأ الاكبر الذي ارتكبته هذه الادارة هو انها اندفعت الى غزو العراق واسقاط نظام صدام حسين من دون خطة سياسية لادارة الاحتلال موقتا، ريثما تنقل السلطة الى العراقيين. كان غرور القوة والغطرسة هو المستحكم في سلوك معظم إن لم يكن كل من شارك في التخطيط للحرب من المسؤولين الأميركيين، مما جعل الاحتلال يبدو مغامرة صبيانية حمقاء وليس مشروعا للتغيير، كما كانوا يبشرون به. وبسبب غياب التخطيط لليوم التالي للغزو تحول العراق الى مسرح عبثي منذ البداية، يعتلي خشبته مجموعة من المسؤولين الأميركيين الجهلة بالواقع العراقي وخبرائهم من الانثروبولوجيين المتحذلقين ومن هواة اللعب بالافكار والشعوب، إضافة الى أصدقائهم من الحواة العراقيين، ثم ما لبث ان تحول العرض المسرحي المزري الى مختبر للمحاولة والتجريب، وانتهى به المطاف لكي يكون ميدانا مفتوحا لصراع دام بين قوى أفلتت وتنامت مثلما تتكاثر الميكروبات في أنابيب الاختبار. والآن فإن السؤال هو هل ان وراء الحملة الأميركية العراقية لاستعادة الامن والاستقرار في بغداد خطة واضحة؟ ام ان الامر لا يعدو مجرد تجربة جديدة في مسلسل التجارب إياها في المشروع العراقي المجهض؟. من الواضح أن حملة بغداد الامنية ترتكز على أفكار الجنرال ديفيد بيترايوس الذي عينه الرئيس جورج بوش لقيادة القوات الأميركية في العراق بعد قراره الاخير بزيادة عددها، وهي أفكار معروفة، يستند بعضها الى دراسات اكاديمية قام بها بيترايوس حول الحرب في فيتنام، وحصل بموجبها على شهادة الدكتوراه من جامعة برنتسن وكذلك كراس عن حرب العصابات اعده للجيش من نتائج تجارب شخصية، قام بها لإخماد التمرد في الموصل وتلعفر اثناء قيادته للفرقة 101 خلال عامي 2003 و 2004. ربما سينجح بيترايوس في فرض حالة من الامن والاستقرار بفضل حجم القوات الأميركية التي ستتوفر لديه وقدرته على تحويل افراد الشرطة والجيش العراقي الى قوة وطنية، وليست مجرد ميليشيات اخرى، اضافة الى تكتيكات كسب البغداديين المتشبثين بأمل انقاذ مدينتهم من مخالب العنف والارهاب التي تظفر بها. لكن السؤال الملح هو ما الذي ستفعله الادارة الأميركية في اليوم التالي لاستتاب الامن في بغداد؟ هل لديها خطة لذلك ام انها ستكرر الخطأ نفسه الذي ارتكبته في الحرب، اي ان تحتل بلدا بخمسة وعشرين مليونا من البشر، بكل تعقيداته التاريخية، من دون ان تدري كيف ستديره؟ بافتراض نجاح الحملة الامنية في بغداد، وهو افتراض ممكن عسكريا، كما تدل نتائج الايام الاولى منها، يبقى ذلك مجرد هدف مرحلي وان خروج العراق من عنق الزجاجة يحتاج الى ما هو اكثر من ذلك. يحتاج الى خطة سياسية شاملة بعيدة المدى، تأخذ بنظر الاعتبار كل الوضع المعقد السائد، بهدف تغييره، ووضع العراق على سكة السلامة. هذه الخطة لا تبدو متوفرة حتى الآن، مما يشكل مصدر القلق الحقيقي مما يجري، خصوصاً ان اغلب المؤشرات تدل على ان هذه تكاد تكون الفرصة الاخيرة لنجاة المركب العراقي من الغرق. هناك تساؤل اكثر اثارة للقلق، وهو عما اذا كان غياب الخطة السياسية مقصودا بذاته، على اعتبار ان هدف الحملة الامنية الحالية هو مجرد تحقيق نوع من الاستقرار الموقت، يسمح للادارة الأميركية بوضع خطة خروج من العراق اذا ازدادت المعارضة الداخلية للوجود الأميركي في العراق قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة. واذا كان انعدام التخطيط للمرحلة التي تلت الحرب العام 2003 وصفة للفوضى التي عمت بعد ذلك، فإنه من تحصيل الحاصل القول إن غياب الخطة السياسية الآن هو بمثابة توقيع شهادة الوفاة للمشروع العراقي برمته، بكل ما يحمله ذلك من تبعات على العراقيين والأميركيين وعلى دول المنطقة. كل هذا يقودنا الى السؤال عن الخطة المطلوبة وبالتالي ما هي اهدافها، ومن سيضعها ومن سيتمكن من انجازها في وضع سيبقى سائلاً وشائكاً ومتوتراً حتى في حالة اعادة الامن والقانون الى بغداد؟ هناك اجماع، لفظي على االاقل، على ان هدف الخطة يجب ان يكون ابقاء العراق موحدا ومنع تقسيمه. لكن هناك شكوكاً، حتى لو كانت قليلة، في نية البعض من الاطراف المعنية عراقياً واقليمياً وأميركياً في ذلك، بينما هناك شكوك اكبر في قدرة الجميع على تحقيق هذا الهدف. ما يعزز من هذه الشكوك هو ان هذه الاطراف جميعاً مسؤولة عما وصل اليه الوضع العراقي، او بالأحرى ما اوصلته اليه، وهي بالتالي كانت، وستظل جزءاً من المشكلة، مما سيبقي الريبة محيطة بنياتها، مهما حاولت ان تدعي عكس ذلك. في المقابل هناك مخاوف حقيقية من أن تؤدي الحملة الأمنية الحالية الى نتائج ستخل إخلالاً كبيراً بالتوازن السياسي الطائفي الاثني الحالي، او حتى ان تعكسه كلياً، مما سيؤدي الى خلط اكبر للاوراق، ووصول الجماعات المذهبية والقومية المتناحرة حاليا الى طريق مسدود، سيؤدي الى عكس المطلوب، اي الى الحرب الاهلية والتقسيم، مع كل الاحتمالات التي سيفتحها ذلك على المنطقة وامنها واستقرارها. ومع هذا فإن هذه النتيجة لا تدعو للتشاؤم او اليأس كما قد يستنتج البعض، بل هي على العكس من ذلك قد تفتح نافذة من الامل، مهما كانت صغيرة لحل ما للازمة العراقية، اذا توفر لها بعض عوامل النجاح الاخرى. اولا، ان وصول كل الاطراف العراقية المتنازعة ومن يقف معها في خندقها من الاطراف الاقليمية، الى مرحلة الاقتناع باستحالة فرض الامر الواقع بالقوة، وهو الاسلوب الذي تلجأ اليه الآن، سيمكنها من الاقتناع بضرورة الوصول الى قواسم مشتركة، وهي نتيجة قد يحققها فرض الامن وافساح المجال للحلول التفاوضية. ثانيا، هناك إمكانية حقيقية ان تخلق حالة الاستقرار والامن الممتد والمضمون زخماً يؤدي الى تغير كلي في المناخ العام يضعف من قبضة المتشددين لدى كل الاطراف ويخلق قوى وآليات عمل سياسي جديدة تتيح الفرصة لتيار وطني عام من القوميات والمذاهب كافة، بإمكانه ان يتوصل الى حل وطني يضمن الحقوق والمصالح الاساسية للتكوينات المختلفة، ولكنه يبني كل ذلك على اساس مشروع وهوية وطنية عراقية. وعلى هذا الاساس، اي وجود فرصة، مهما كانت ضئيلة، فلا بد من وجود خطة سياسية لدعم الخطة الامنية والبناء عليها لفتح افق لحل تفاوضي على اساس المشروع الوطني الجديد. هذه الخطة يجب ألا تتجاوز فقط الاخطاء التي وقعت فيها كل محاولات المصالحة والوفاق التي جرت خلال هذه الفترة، بل ان تقوم على تسويات خلاقة تحافظ على التماسك الوطني والاجتماعي من جهة، وتفي بالتوقعات والاحتياجات المادية والنفسية للجماعات المختلفة وأمانيها، من جهة ثانية. لا يتعلق الامر هنا بحل سحري او معجزة، بسبب ما وصلت اليه الامور من تعقيدات، بل إن الامر بكل بساطة راجع الى حقيقة ان نجاح الخطة الامنية وتحقيق الاستقرار على مدى بعيد سيثبت فشل المشاريع الحالية، وسيؤكد ان السيناريو الآخر، اي الحرب الاهلية والتقسيم، هو اكثر كارثية على كل الجماعات العرقية والمذهبية، التي تدعي وحدة المصالح والاهداف والتجانس الآن، والتي ستتشرذم اذا ما حصل ذلك، الى اطياف وتكتلات على نحو لا يمكن تصوره، بسبب الانقسامات الافقية والرأسية لهذه المكونات وتاريخها الطويل من الصراع والمنازعات. ان اهم النتائج التي ستسفر عنها الحملة الامنية، اذا نجحت، هي ان الاستقرار سيحرم الفئات التي تصدت لقيادة الجماعات الشيعية والسنية خلال فترة التأزم، من إمكان الهيمنة وادعاء تمثيلها لطائفتها، وسيؤدي على المدى الابعد الى عملية احلال وتبديل للنخب التي استولت على السلطة، وتصر الآن على حيازتها. فالمؤكد ان الاستقرار المحمي والمضمون، لن يؤدي فقط الى تغيرات في الاتجاهات النفسية، التي ستضعف بدورها النماذج الثقافية الطائفية السائدة، بل ستولد ايضا نخباً وتيارات تطرح خيارات مبتكرة، غير تلك التي تتشبث بها القيادات الحالية المتصدية التي سيتضح، حين يعم الاستقرار، انها لا تعكس الآمال والطموحات الحقيقية لابناء طائفتها، ناهيك عن الاهداف والمصالح الوطنية، وانها بسبب تخندقها الطائفي وضيق افقها وانانيتها وبحثها الدائب عن الامتيازات وسلوكها العصبوي، أكثر عجزاً وتخلفاً من ان تطرح نموذجاً خلاقاً لمجتمع تعددي ناهض. سيوفر الاستقرار، اذا ما تحقق، واقعا جديداً كلياً، ينبغي أن يبنى عليه لإخراج العراقيين من محنتهم القاسية، وتعويضهم عما فاتهم، وعن الاعمال الاجرامية التي ارتكبت بحقهم، سواء من جلاديهم وممتهني كرامتهم وحقوقهم في النظام البعثي السابق، او ممن ادعى تحريرهم منه، او من تلك الجماعات التي اشاعت الخراب والتدمير في البلاد، سواء تحت دعاوى احتياجات الصراع من اجل الثروة والسلطة، او خدمة لأجندات خارجية. غير ان الامر كأي فرصة سيواجه تحديات جمة، وستعترضه عوائق شاهقة، مما يتطلب، اكثر من تحقيق الامن، واكثر من انشغال العراقيين بمشاعر العقاب والندم، وجود خطة واستراتيجية تأخذ بنظر الاعتبار الحقائق الجديدة التي ستفرزها الخطة الامنية، وعلى رأسها فشل العملية السياسية الجارية وضرورة البدء بعملية جديدة تقوم على اساس التعلم من اخطاء الماضيين القريب والبعيد. واذا كان العراقيون يتحملون النصيب الاوفر من مهمات انجاز عملية اعادة البناء، في سياق جديد، فإن على العالم الذي ساهم بقسطه في اشاعة هذا الخراب في بلادهم، ان يتخلى بعد الان عن لامبالاته وأنانيته وان يتحمل قسطه من المسؤولية وان يتقدم بمبادرات ايجابية للمساعدة في هذه العملية. ان تحويل العراق الى ميدان للصراع الاقليمي والدولي ولتصفية الحسابات والابتزاز استنفد اغراضه، وكشف ليس عن عقم وخواء السياسات التي اتبعت، وبخاصة من دول الجوار العراقي، بل كشف ايضا عن الثمن الباهظ الذي ستدفعه هذه الدول اذا استمرت في دفع التدهور في العراق. ولذلك فإن اي خطة سياسية ينبغي الا تتجاهل الدفع بضرورة المشاركة الايجابية لهذه الدول في تحقيق اهداف الخطة، وهي مهمة لا بد ان تعالج في اطار جماعي، ولكن من دون وضع العراق في موضع المقايضات. بعد الخطة الامنية سيكون العراق بحاجة الى خطة سياسية ... تنتظر من يضعها. * كاتب عراقي