بعد ثلاثة أشهر من توليها المسؤولية لاتزال حكومة نوري المالكي ترواح في المربع رقم واحد الذي ابتدأت منه، بل إن هذا المربع أخذ يضيق شيئا فشيئا، واضعا العراق كله على حافة هاوية سحيقة، على الرغم من كل الوعود والتصريحات الوردية التي يطلقها المسؤولون الاميركيون والعراقيون خلاف ذلك. وعادت التفجيرات تدوي في بغداد ومدن أخرى بينما استمرت أعمال العنف الطائفي الدموي بكل أشكالها تحصد المزيد من الضحايا وتفاقم من حالة انعدام الأمن والاستقرار الذي كان مفترضاً بالحكومة العمل على استعادته. في التحليل الأخير هذه نتيجة مزرية للعملية السياسية التي وجهتها حكومة المالكي والتي سيمهد فشلها النهائي الطريق إلى جهنم العراقي، وهو النقيض لمشروع إعادة بناء عراق حر وموحد وتعددي وديموقراطي. مالذي حدث وأوصل الأمور إلى هذا الدرك البشع من طوفان الدم وجموح العنف المنفلت في شوارع المدن العراقية؟ انه بالتأكيد سوء التقدير والحسابات الخاطئة القائمة على العنجهية والغطرسة والجهل وسياسات التجريب والإملاءات التي مارسها الاحتلال منذ البداية، والأنانية والجشع واللهاث وراء السلطة والانتهازية السياسية المجردة من المبادئ الأخلاقية وعمليات غسيل الأدمغة التي مارستها مختلف القوى السياسية، سواء تلك التي حملها الاحتلال معه وهيأ الاجواء لها لكي تستحوذ على السلطة، أو تلك التي كانت وما زلت تتبجح بمقاومته، بينما لا هم لها في الحقيقة إلا العودة إلى مواقعها السابقة التي فقدتها، لكي تمارس من جديد عاداتها القديمة التي جلبت كل الويلات على العراق، بل جاءت بالاحتلال ذاته. فمن ناحية الاحتلال، فمن المؤكد أنه لا يملك حتى الآن خطة أو رؤية حقيقية لإعادة بناء العراق بعد أن قام بتفكيكه على صعيدي الدولة والمجتمع، غير ذلك الكلام الأجوف عن الديموقراطية ومنح العراقيين الفرصة لكي تقرر طوائفهم وأعراقهم مستقبلها بنفسها وفق تسويات سياسية مرضية. الخطة الوحيدة التي تمتلكها الإدارة الحالية هي تفادي هزيمة استراتيجية مجلجلة وترحيل المأزق الذي خلفته الى الإدارة القادمة بعدها، مما يعني، وفق تنامي زخم العنف الطائفي الحالي، الانزلاق المؤكد نحو حرب أهلية لا يمكن أن تنتهي من دون تورط المنطقة برمتها في أتونها الملتهب. ما يؤكد ذلك هو الطريقة الساذجة التي يعالج بها جيش الاحتلال العنف الطائفي، من خلال الانتقال بحملاته التأديبية الطائشة بين المناطق السنية والشيعية، والتي تأتي عادة بعكس النتائج المرجوة وتزيد من حدة الاحتقانات الطائفية، بسبب افتقاد العمل العسكري إلى رؤية سياسية واضحة. وبدورها، فإن القوى العراقية المتصدية للعمل السياسي وفق أجندات طائفية وعرقية لم تخفق فقط في بلورة تصور موضوعي لحل وطني يجنب العراقيين الثمن الباهظ الذي يدفعونه من دون جدوى، بل انها ساهمت في دفع الأمور نحو طريق مسدود. فاليوم لا يمكن التعويل على النسخة المتوفرة من العملية السياسية وملحقها، مبادرة المصالحة الوطنية، كمخرج من المأزق الدموي الذي يرزح تحته ملايين العراقيين، لسبب أساسي، وهو عدم توفر الإرادة والرغبة لدى الأطراف المتصدية للقبول بتسويات تفاوضية، وفق سياق العراق الجديد، وولوجها بدلا من ذلك درب صراع القوى وكسر الشوكات وفرض الأمر الواقع المستحيل. إن هيمنة هذه القوى من خلال تحويل مبدأ المشاركة الوطنية والديموقراطية الى مسلك المحاصصة واقتسام الغنائم واستبعاد التيار الوطني العام الرافض للنهج الطائفي والعرقي دفعت البلاد إلى مغامرة اصبح الخروج من دوامتها يحتاج الى وضع العملية السياسية على مسار آخر، مغاير لدرب المعاناة والألم والأحقاد الطائفية التي وضعت فيها. لابد من الإقرار أولا، ومهما كان الأمر صعباً وقاسياً، ان العملية السياسية الحالية فشلت وأن الخطط الأمنية التي تنفذها الحكومة وكذلك الإرهاب الأعمى والعنف الدموي الذي يقوم به خصومها وشركاؤها في آن، لن تخرج العراق من المأزق الوطني إن لم تعمقه لذلك ينبغي على كل الأطراف المعنية الأميركية والعراقية، بأطيافها المختلفة، منفردة ومجتمعة، أن تقر بأن ما حصل كان إخفاقا وعجزا، وأن عليها أن تجد مقاربات جديدة للحل. لا بد من الإقرار ثانياً ان عودة العراق إلى ما كان عليه هو أمر شبه مستحيل وأن الخيارات المتاحة تتراوح بين الانفصال أو العيش المشترك وفق عقد سياسي جديد. وثالثاً لا بد من الإقرار بأن حل المشكلة العراقية لا يمكن أن يقتصر على جهد العراقيين فقط بسبب التدخلات والتداخلات الخارجية من قبل بعض دول الجوار في الشؤون العراقية وضلوعها في بعض الأحداث الجارية. إن أي تحليل معمق لنتائج العملية السياسية منذ الاحتلال سيوضح عدم وجود إجماع على مشروع وطني موحد بين الأطراف الرئيسية المتصدية للعمل السياسي والتي تشمل المكونات العرقية والمذهبية الأساسية الثلاثة وهي الشيعية والسنية والكردية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن مواقف هذه الأطراف قد لا تمثل بالضرورة الموقف العام الجامع لكل مكون منها. طبعا هناك موقف كردي أكثر تجانسا وهو مستمر منذ عام 1991، حين نشأت الإدارة الكردية المستقلة عن بغداد، كما أنه أكثر وضوحا وينزع بشكل جلي إلى تحقيق تراكم من الإنجازات السياسية والاقتصادية على طريق الاستقلال الكامل في اللحظة التي سيختارونها. غير ان الموقفين الشيعي والسني هما اللذان يشوبهما الاضطراب والتشويش وعدم القدرة على اتخاذ قرار واضح وصريح بشأن جدوى بقائهما معا في كيان واحد أو طلاقهما طلاقاً بائناً. والمشكلة الأساسية التي تواجه العراقيين اليوم هي أن هذه القيادات المتصدية لا تطرح الأسئلة والقضايا الحقيقية والجوهرية على مستوى النقاش العام في الوقت الذي تبين فيه تحليلات مواقفها انها ماضية في طريقها نحو مشاريع هي ليست بالضرورة قدرا محتما ولا هي أفضل الحلول المطروحة لحل مأزقها القومي أو الطائفي ولا المأزق الوطني العراقي الشامل. ففي الوقت الذي يكشف فيه أي تحليل منطقي للمسلك الكردي أن خيار تراكم الانجازات بهدف تحقيق الحلم القومي على حساب ضعف المشاركة في بناء عراقي ديموقراطي تعددي موحد، قد لا يكون بالضرورة هو الأنسب لخدمة قضية الشعب الكردي في المنظور القريب، فإن الارتباك الشيعي والسني وضياع البوصلة لدى قيادتهما قد يؤديان بالنهاية إلى المزيد من الجراح والمعاناة والآلام، من دون تحقيق أي منهما لأي نصر حقيقي، بقدر ما سيؤدي في النهاية إلى تدمير المنجز التاريخي ليس للتآخي الشيعي السني في العراق فحسب بل في عموم المنطقة. وعلى رغم أن الحالة العراقية تبقى فريدة من بين حالات إعادة بناء الدول المدمرة، بسبب عمق الإنقسام الأفقي والعمودي لتكويناته الدينية والطائفية والعرقية وامتداداتها الخارجية، إلا أنها ليست استثناء وان بعض الجوانب الناجحة من تجارب عالمية بإمكانها أن تقدم مثالاً جيداً للعراقيين وتمنحهم أملاً للخروج من محنتهم خارج مسيرة الدم التي يدفعون اليها دفعا. هناك تجارب لبنان والسودان والبوسنة وكوسوفو وجنوب افريقيا وروسيا وايرلندا الشمالية، وقبل ذلك هناك تجارب المانيا وبريطانيا والهند بل حتى الولاياتالمتحدة ذاتها والتي تقدم كل منها جوانب مفيدة في حل معضلة مشابهة كالمعضلة العراقية بهدف تفادي المرور بنفس تجربة الحروب الأهلية المدمرة التي مرت بها تلك الدول. والواقع أن لا العملية السياسية ولا وثيقة الوفاق الوطني التي اعلنتها الحكومة تمضيان بهذا الاتجاه، أي تقديم حلول جذرية، بل إنهما تتعاليان على الواقع المؤلم وتحاولان، بفذلكة وألعاب لفظية، تقديم حلول مبتسرة وشكلية، في الوقت الذي يوغل فيه الطرف الآخر في استخدام العنف والإرهاب كوسيلة لتحقيق شروط تعجيزية متسبباً في توسيع الشرخ الوطني وتعميقه. ما المطلوب اذن للخروج من هذه الدوامة المدمرة؟ المطلوب اولا، وقبل كل شيء، حسم الخيارات الكبرى وعلى رأسها قرار بقاء الجماعات المذهبية والعرقية في عراق موحد أم لا. ولأن مثل هذا القرار لا ينبغي ولا يجب أن يتخذ في ظل ظروف قهرية ومشوشة تسود فيها جماعات العنف والارهاب والمليشيات، ولا من قبل جماعات او حفنة من السياسين الذين تولوا الأمور في ظل غياب إرادة التيار الوطني العام، فإن ما هو مطلوب ثانياً، هو فترة انتقالية سلمية تتوقف فيها كل اشكال العنف والإرهاب وتختبر فيها عملية سياسية جديدة تحصل على أكبر إجماع وطني ممكن. والمطلوب ثالثاً جهد خارجي، حتى لو وصل إلى فرض اشراف أو وصاية دولية موقتة، يساعد على الوصول إلى حلول مرضية ويوفر الضمانات الأمنية والسياسية لحماية هذا النوع من الحلول التوافقية، والتي عجز الاحتلال والجماعات العراقية معا عن الوصول اليها حتى الآن. هناك عدة عوامل لازالت تعمل لمصلحة انقاذ العراق من مصير غير محتم ينتهي بتقسيمه وشرذمته، يأتي على رأسها وجود أغلبية عراقية بين كافة الجماعات لاتزال تتشبث برغبة العيش معا في وطن واحد ومستعدة لأن تنخرط حين تتاح لها الفرصة في مشروع نهوض وطني. كما هناك مخاطر وتهديدات يشكلها انهيار العراق على أوضاع المنطقة برمتها ينبغي استغلالها وتوظيفها لتسليط الضوء على حاجة العراقيين الى إبعاد الأطراف الخارجية عن التدخل السلبي في شؤونه. وهناك أخيراً حاجة أميركية ملحة لتفادي هزيمة مدوية في العراق، ستقصم لو حصلت، ظهر المشروع الأميركي، ليس في المنطقة بل في العالم كله. * كاتب عراقي