يبدو ان كوندوليزا رايس امرأة ذكية، ذات نيات طيبة، وانها صادقة - كمن سبقها من وزراء الخارجية الأميركيين - في أن تكون لها مساهمة "شخصية" في التوصل الى تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي، ولكنها بعد قيامها بما لا يقل عن ثماني زيارات لمنطقة الشرق الأوسط، فشلت في أن تدفع عملية السلام، ولو خطوات صغيرة الى الأمام، لماذا؟ الأسباب كثيرة ومعقدة، ولكن أكثرها وضوحا وافتضاحا هو ان اليوت ابرامز، مستشار الرئيس بوش لشؤون الشرق الأوسط، وأكثر الصقور الموالين لاسرائيل تعصباً، قد طعنها من الخلف، بالاضافة الى ان الرئيس بوش نفسه استنكف عن مساندتها في اللحظة الحاسمة. لقد قامت كوندوليزا رايس، في عطلة الأسبوع المنصرم، بزيارة القدس ورام الله وعمان، وصرحت بأنها عازمة على مناقشة الاطار العام للدولة الفلسطينية، وعلى توفير"افق سياسي"للفلسطينيين. وقد فسرت هذه التصريحات على انها اقرار بأن الولاياتالمتحدة قد أخذت علما باتفاق مكةالمكرمة الذي ابرم بين"فتح"و"حماس"، برعاية سعودية، في أوائل شباط فبراير، وانها على أتم الاستعداد لمنح حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية الجديدة فرصة لاثبات جدارتها. وكانت الحركة الاسلامية"حماس"قد تعهدت في مكةالمكرمة أن"تحترم"الاتفاقيات السابقة بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، وانها ستعترف"ضمنا"بالدولة العبرية، مما يعني انها خطت خطوات متقدمة لتلبية الشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية الولاياتالمتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الأممالمتحدة، وانها أضحت مؤهلة لاستئناف التعاون مع المجتمع الدولي، بعد اعادة المساعدات الى الحكومة الفلسطينية. وكان يبدو ان الوساطة السعودية قد نجحت، لا في الحيلولة دون نشوب الحرب الأهلية الشاملة بين الفلسطينيين فحسب، وانما في اسقاط المقاطعة الدولية الظالمة ل"حماس"، التي أوصلت الشعب الفلسطيني، في السنة الماضية، الى تخوم الفقر المدقع. وكان من المتوقع أن تفضي قمة 19 شباط بين رئيس وزراء اسرائيل ايهود أولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس باشراف كوندوليزا رايس، الى البدء في مناقشة القضايا الجوهرية، مثل الحدود واللاجئين والقدس خصوصا بعد أن كثر الحديث عنها في أجهزة الاعلام. ولكن لم يتحقق شيء من هذا كله في هذه القمة، اذ تحول الاجتماع الى مباريات لاذعة في التصايح والتلاسن: اتهم أولمرت الرئيس محمود عباس"بخيانته"، وعقد صفقة مع"حماس"، التي تسعى اسرائيل الى القضاء عليها، لا الى قبول مشاركتها في الحكم. ورد عباس بغضب"انه لم يعد أولمرت بشيء، ولم يتعهد له باقصاء حماس"، وان الأفضلية، بالنسبة له، هي ايقاف الحرب الأهلية الفلسطينية - الفلسطينية. وواقع الحال ان نتائج القمة كانت قد حسمت قبل أن تطأ قدما كوندوليزا رايس ارض اسرائيل. كان ايهود أولمرت قد اتصل هاتفيا بالرئيس جورج بوش في 16 شباط الجاري، وحصل منه على تعهد شخصي بأن اتفاقية مكةالمكرمة لن تغير شيئا، وان الولاياتالمتحدة ستستمر في مقاطعة"حماس"، كما تفعل اسرائيل، ولم يعد سراً ان اسرائيل ترى في اتفاقية مكةالمكرمة تراجعا في عملية السلام، لأنها منحت"حماس"الشرعية، وهكذا كان بمقدور أيهود أولمرت أن يعلن أن الموقفين الأميركي والاسرائيلي متطابقان. وقد استبعدت ميري ايزين، الناطقة باسمه، أي مفاوضات حول موضوعات الحل النهائي مع الرئيس محمود عباس، اذا ما مضى قدما في مخططه لتشكيل حكومة اتحاد وطني تضم"حماس". لقد أعلنت ايزين:"لا مباحثات ولا مفاوضات تتناول موضوعات الحل النهائي...". مسكينة كوندوليزا رايس! انها تفتقر، بالتأكيد، الى السلطة التي تمكنها من التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، والأفضل لها أن لا تضيع وقتها عبثا، وأن لا تحيي آمالا كاذبة، وأن لا تتردد على هذا الجزء من العالم، طالما ان رئيسها جورج بوش قد تبنى وجهة النظر الاسرائيلية التي تقول:"ان حكومة حماس التي انتخبت ديموقراطيا هي منظمة ارهابية لها ارتباطات بايران وسورية، وانها لا تختلف، لا في قليل ولا في كثير، عن منظمة القاعدة"، وانه ينبغي تصفيتها واختفاؤها عن المسرح، قبل تحقيق أي تقدم في عملية السلام. وعلى الرغم من المحاولات التي تجري في أوروبا، وفي أماكن أخرى، لإعادة اطلاق عملية السلام، فانه لا توجد لدى اسرائيل اي رغبة في ابرام اتفاقية سلام مع الفلسطينيين، تتضمن الانسحاب الى أي مكان قريب من حدود 1967، ولن يوقفها أي شيء عن الحيلولة دون اجراء أي مفاوضات جادة حول هذا الموضوع. وكما كتب جوفري أرونسن، الباحث في مؤسسة"سلام الشرق الأوسط"في واشنطن، في تقريره الأخير عن المستوطنات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة:"يفاخر أولمرت، كما كان يفاخر بن غوريون، بقدرته على خلق حقائق جديدة على الأرض. لقد ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية، في عهده، 6% في عام 2006 باستثناء القدسالشرقية، وكان عدد الاسرائيليين الذين يعيشون في الضفة الغربية، في نهاية العام 268379. ولم تفكك أي مستوطنة غير شرعية كما كان متوقعاً". ان ايقاف قضم اسرائيل الزاحف للأراضي الفلسطينية يتطلب أن يتحلى رئيس الولاياتالمتحدة بالشجاعة الخارقة، وأن يكون قادراً علىالالتزام الشخصي، ولكن هذا أقرب الى الاستحالة، بسبب الدعم الذي تحظى به اسرائيل في الكونغرس، وفي أجهزة الاعلام الأميركية، وفي مؤسسات"خزانات الفكر"التي يسيطر عليها المحافظون الجدد. وبسبب الاغراق المالي الذي يغمر به اليهود الأميركيون الحملات الانتخابية للحزبين الديموقراطي والجمهوري، وبسبب تعاظم نفوذ المسؤولين الموالين لاسرائيل في مختلف الادارات الأميركية. ثم ان الرئيس بوش غارق في الحرب الفاجعة في العراق، وبعودة"طالبان"في أفغانستان، وبلعبته الجهنمية مع ايران، هذه الموضوعات هي التي ستقرر مصير خلافته في الرئاسة، وكما يظهر من سجل بوش المتميز والقائم على تجاهله للصراع العربي - الاسرائيلي، طوال السنوات الست من ولايته، فإنه ما زال من المؤمنين بأن بقاء هذا الصراع من دون تسوية لا يشكل تهديداً استراتيجياً للمصالح الأميركية، وهذا ما يشجعه على السماح لاسرائيل أن تنفرد بتسوية هذا الصراع وحدها، وبتوقيتها وشروطها. وماذا عن الأوروبيين؟ هل هناك أمل في أن يتدخل الاتحاد الأوروبي لملء الفراغ الناشئ عن العناد الاسرائيلي، وعدم الاكتراث الأميركي؟ النروج هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي أعلنت ان اتفاق مكةالمكرمة يلبي الشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية لرفع الحصار عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، أي الاعتراف باسرائيل، والتخلي عن العنف، وقبول كل الاتفاقيات السابقة بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل. هناك دول أوروبية أخرى تقاسم النروج وجهة نظرها سراً، ولكنها لا تجرؤ على المجاهرة بموقفها. لقد فضل رئيس وزراء بريطانيا توني بلير أن يلتزم الصمت، على الرغم من أنه أعلن بصوت مرتفع عن تصميمه على أن يكرس آخر أيام ولايته للصراع العربي - الاسرائيلي. ان وفداً يضم ممثلين عن منظمات الدفاع عن حقوق الانسان كجماعة"الأزمات الدولية"أو منظمة"البحث عن الأرضية المشتركة"، بالاضافة الى بعض الشخصيات الناشطة من أجل السلام، ينوي القيام بجولة في الشرق الأوسط بين 8 و12 آذار مارس القادم، وبتمويل من الحكومة النروجية، ولكن مثل هذه المساعي الطيبة لن تؤثر على المتشددين الاسرائيليين، اذا لم تكن مدعومة من الاتحاد الأوروبي، ومتزامنة مع ضغوط عربية فاعلة على الادارة الأميركية. لقد فشل الاتحاد الأوروبي بشكل ذريع، كما فشلت من قبله كوندوليزا رايس، اذ ارتكب خطيئة فادحة بتبنيه الموقف الأميركي - الاسرائيلي الداعي الى عزل حكومة"حماس"، وسحب الاعانات المالية عنها، ولكن الاتحاد الأوروبي، حرصاً منه على تجنب حدوث كارثة انسانية أنشأ ما يسمى"الآلية الدولية المؤقتة"لارسال المساعدات الى المستشفيات والمستوصفات الفلسطينية، ولتوفير امدادات الطاقة والماء، ولتأمين الخدمات الأساسية للفقراء والمعوزين من الفلسطينيين. ان سياسات الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنها لم تنجح في تحقيق السلام بين الفلسطينيين - ناهيك عن فشلها في اجراء مفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين - قد شجعت"فتح"على أن تسعى الى استعادة السلطة من"حماس"، مما دفع الحركة الاسلامية الى أن تسقط بين ذراعي سورية وايران. على الاتحاد الأوروبي أن يحذو حذو النروج، وأن يقبل اتفاق مكةالمكرمة، على أساس انه يلبي شروط اللجنة الرباعية الثلاثة، وأن يستخدم كل ثقله لجر اسرائيل الى طاولة المفاوضات. ان الاسرائيليين على أتم الاستعداد لقبول الانسحاب من معظم اراضي الضفة الغربية - حسب تقرير مؤسسة السلام الأميركية لهذا الشهر - وهذا من شأنه أن يسهل اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولكن أولمرت ومؤيديه من الجناح اليميني لن يحركوا ساكنا اذا لم تتضاعف الضغوط الدولية عليهم. يحلو لاسرائيل أن تتحدث عن الناشطين الفلسطينيين بصفتهم"قنابل جرثومية"ولا تتردد في قتلهم، وواقع الأمر ان تصفية هذه"القنابل الارهابية"هي في صلب السياسة الاسرائيلية الرسمية، وقد يحسن بالاسرائيليين أن يفكروا مليا في هذا الأمر، وأن يدركوا بأن أخطر قنبلة ستنفجر في وجوههم ذات يوم، هي الغضب العربي الاسلامي المتصاعد ضد معاملتهم المشينة للفلسطينيين تحت الاحتلال. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط