يبدو ان عملية السلام العربية - الاسرائيلية، بعد سنوات طويلة من السبات، قد بدأت تنبض بالحياة، وكأن الانفجارات المتعاقبة من العنف، خلال السنوات الست الماضية - الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الارهاب والارهاب المضاد، محاصرة اسرائيل القاسية لقطاع غزة، حرب اسرائيل المدمرة على لبنان، بالاضافة الى تلاحق الكوارث في العراق، واحتمال حدوث مجابهة أميركية ايرانية - قد اصابت الأطراف المحلية، والمجتمع الدولي بصدمة، ودفعت بهم جميعا الى التفكير بإجراء تسوية اقليمية واسعة. وهناك عدد من التطورات أثارت انتباه المجتمع الدولي يمكن اجمالها على الوجه التالي: * أعلنت وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة كوندوليزا رايس انها ستعقد محادثات غير رسمية، في الشهر المقبل، مع رئيس وزراء اسرائيل ايهود اولمرت، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لاستطلاع"الأفق السياسي"، بغض النظر عما يعنيه هذا التعبير. ومن المحتمل أن تشارك واشنطن في هذه المحادثات، ولكن ليس من الواضح فيما اذا كان هذا التوجه الأميركي يستهدف تحريك عملية السلام، ام انه ليس أكثر من ايماءة لإرضاء الدول العربية المعتدلة التي تحتاج الولاياتالمتحدة الى مساندتها، لتحقيق الاستقرار في العراق، ومواجهة ايران. * لقد صرح جيمس بيكر ولي هاملتون، في التقرير الذي رفعته لجنة دراسة العراق، وفي محاولة لايقاظ ادارة بوش الغارقة في خمولها، ان الولاياتالمتحدة لن تكون قادرة على تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط، ما لم تعالج الصراع العربي - الاسرائيلي مباشرة، ولكن الرئيس بوش اختار من التقرير ما يراه مناسباً، وأهمل توصياته الجوهرية. * انفرد صحافي اسرائيلي مرموق، اكينا اليرار، في تحقيق نشر في صحيفة"هآرتس"الاسرائيلية، يوم الثلثاء المنصرم، بالكشف عن اجتماعات بين ممثلين اسرائيليين وسوريين غير رسميين، في اوروبا، خلال السنتين الماضيتين، جرت فيها"محادثات سرية"وانتهت الى صياغة الخطوط الرئيسية لاتفاق سلام بين البلدين. وشارك في المحادثات"ابي سليمان"، وهو رجل أعمال أميركي من أصل سوري، يقيم في الولاياتالمتحدة، والدكتور ألون ليل، أكاديمي ورجل أعمال اسرائيلي، كان المدير العام لوزراة الخارجية الاسرائيلية، وسفير اسرائيل السابق في أنقرة. ويبدو ان الرجلين كانا يتصرفان بصفة شخصية، وان كان من المعتقد ان ديبلوماسياً سويسريا كان يساعدهما، كما كان يساعدهما جوفري ارسون الذي يعمل في مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، ومركزها الرئيسي في واشنطن، ومعروف بأنه من كبار الخبراء الأميركيين المتخصصين بالمستوطنات الاسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومثل هذه الاتصالات غير الرسمية يمكن أن تكون مفيدة في الكشف عن نيات الأطراف، ولكنها قد تسبب بعض الإحراجات اذا تم تسريبها. ان رئيس وزراء اسرائيل أولمرت لا يريد أن يغضب الولاياتالمتحدة، ولا أن يعترف بإجراء اتصالات مع سورية التي ما زالت واشنطن تعتبرها"دولة معادية"، ومن جهة أخرى، تميل سورية الى اعتبار"القنوات الخلفية"أفخاخاً. على أي حال، لقد أنكرت سورية واسرائيل معاً وجود أي علاقة رسمية بهذه المحادثات السرية. **** ان المؤتمر الذي عقد في مدريد في 10- 12 من كانون الثاني يناير الجاري، يحمل أكبر وأهم دلالة في عملية السلام، إذ أن هدفه الطموح هو إجراء محادثات رسمية مفاجئة وسريعة بين الأطراف: اسرائيل وسورية ولبنان والفلسطينيين. اطلق على المؤتمر اسم"مدريد بعد 15 عاماً"، اشرفت على انعقاده منظمات المجتمع المدني، بمساعدة حكومات عدة اسبانيا والسويد والنروج والدنمارك. وكان المحرك الرئيسي في هذا المؤتمر هو وزير خارجية اسبانيا مايكل أنغيل موراتينوس، ولإظهار التزام اسبانيا بعملية السلام، استقبل ملك اسبانيا الوفود المشاركة. أما الخطوة التالية التي تجري مناقشتها الآن، فهي الدعوة الى اجتماع"لجنة القيادة"في مدريد الشهر المقبل برئاسة مزدوجة يتقاسمها موراتينوس وجون كار ستور، وزير خارجية النرويج، وهدف هذا الاجتماع هو الحصول على تأييد كبير لعقد مؤتمر دولي، وهذه المرة سيكون مؤتمراً رسمياً - مستوحى من المؤتمر السابق الذي أطلق عملية السلام في مدريد عام 1991، والمعتقد ان المشرفين على"لجنة القيادة"سيسعون الى توفير مشاركة عربية من مستوى رفيع، أو على الأقل، توفير"مظلة عربية"تكون على شكل"رعاية"الجامعة العربية للمؤتمر. وقد برزت أفكار مفتاحية في اجتماع مدريد هذا الشهر: أولها: الشعور بضرورة الاستعجال، والتخوف من أن يفلت الوضع في الشرق الأوسط عن السيطرة، اذا لم يتم إحياء عملية السلام، وكان أول وأحسن من عبر عن هذه المخاوف خافير سولانا - المسؤول عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي - الذي قال:"ان الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة"، مؤكداً:"لقد حان وقت العمل، وأزمة الشرق الأوسط لا يمكن أن تنتظر الرئيس الجديد للولايات المتحدة". وثانيها: إعادة الحياة الى خطة السلام العربية التي تبناها العالم العربي في قمة بيروت، في آذار مارس 2002، والتي وعدت اسرائيل بالسلام، وعلاقات طبيعية مع 22 دولة عربية في مقابل الانسحاب الى حدود 1967. لقد وصف فيليب غونزاليس، رئيس وزراء اسبانيا السابق خطة السلام العربية بأنها"مرحلة مهمة في التاريخ"وبأنها"نقطة اللاعودة على طريق السلام". في حين ان عمرو موسى، الأمين العام للجامعة العربية، حث اسرائيل على"أن لا تتخوف من السلام، وأن تعمل على أن تكون عضواً في مجتمع دول الشرق الأوسط ...". وتناول هذا الموضوع عضوا الوفد السوري، الدكتور رياض الداوودي، المستشار القانوني لوزارة الخارجية السوري، وبشرى كنفاني، الناطقة باسم الوزارة، اللذان أكدا ان سورية قد اتخذت قراراً استراتيجيا لصالح السلام في حين بقيت النيات الاسرائيلية غامضة وسلبية. لقد أثار الداوودي الكثير من الاهتمام حينما استعرض تاريخ المفاوضات السورية مع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة من 1991 الى 2000، التي أظهرت ان رفض اسرائيل للانسحاب الى حدود 4 حزيران يونيو 1967 هو الذي أدى الى فشل المفاوضات. ويبدو ان"هجوم السلام العربي"الذي أطلقته سورية والفلسطينيون قد اثار أعصاب وفد المشاركين الاسرائيليين الذي كان يضم شخصيات اسرائيلية مرموقة مثل شلومو بن عامي ودان مريدور وكوليت افيتال وداليا رابين وروني ميلو وموشي شهال ودافيد كشه، وكان العرب هذه المرة هم الذين"قلبوا الطاولة"على الاسرائيليين حين تذمروا من انه لم يعد هناك"شريك لصنع السلام عند الطرف الاسرئيلي"فقد طرح جبريل الرجوب، وهو مستشار الأمن القومي الفلسطيني القضية بجرأة وقسوة، حينما قال:"لا يوجد قائد اسرائيلي ينادي بحل يقوم على اقامة دولتين، ولا يعترف أي قائد اسرائيلي بالشعب الفلسطيني". ولم تكن حنان عشراوي أقل جرأة حينما صرخت:"اننا على استعداد للتفاوض على كل القضايا، ولكن هل أنتم أيها الاسرائيليون على استعداد لفك المستوطنات؟". وثالثها: ان الوقت قد حان للتخلي عن المقاربة القائمة على التقدم خطوة إثر خطوة، وبالتدرج، التي ظهر انها قديمة قد عفا عنها الزمن، وتولد عدم الثقة، والأفضل التقدم مباشرة الى الحل النهائي الشامل. ورابعها: الفكرة التي تقدم بها وزير خارجية النروج جوناس سنور ومستشار الرئيس المصري اسامة الباز، والمسؤول الفلسطيني نبيل شعث وآخرون، والقائلة إنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي أن يتحرك لإطلاق عملية السلام، بسبب الغياب الأميريكي، على أمل أن تنضم اليه الولاياتالمتحدة في ما بعد. ولكن هذه الفكرة لم تقنع المشاركين الاسرائيليين، اذ ان شلومو بن عامي، وهو وزير خارجية سابق من حزب العمل، قد أصر على"ضرورة أن تتولى الولاياتالمتحدة قيادة التحرك"، وفي قناعته ان اسرائيل تحتاج الى ضمانات لا يمكن أن تقدمها إلا الولاياتالمتحدة، وان التحالف الأوروبي - الأميركي هو مفتاح تحقيق السلام في الشرق الأوسط. ولكن ما قيمة كل هذه الأفكار؟ ان العرب والأوروبيين تواقون الى السلام، ويريدون أن تنهي اسرائيل احتلالها للأراضي الفلسطينية، وأن تفكك مستوطناتها غير الشرعية، وأن تتوقف عن إقامة الجدار العازل على الأراضي الفلسطينية، وأن تنزل من هضبة الجولان، وفي المقابل ستحصل اسرائيل على السلام، وسينتهي الصراع. ولكن الحقيقة المرة هي ان الولاياتالمتحدة، الدولة الوحيدة القادرة على التأثير على اسرائيل، منهمكة في حربها مع العراق، وبالخطر الذي تمثله ايران الصاعدة. ان الولاياتالمتحدة، على رغم مساعي كوندوليزا رايس المتواضعة والجديرة بالثناء، ليس لديها لا الوقت ولا الرغبة في تسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، اذ لم يحضر أي ممثل عن حكومة الولاياتالمتحدة المؤتمر، ولم يجد المؤتمر صدى في الصحافة الأميركية. ومن جهة أخرى، فإن الحكومة الاسرائيلية التي يتدهور الالتفاف الشعبي حولها في استطلاعات الرأي العام لا يبدو أنها راغبة ولا قادرة على أن تتخذ قرارات تاريخية، ولكن السلام لا يمكن أن ينتظر، ويرى معظم المشاركين في المؤتمر انه اذا لم يتحقق بسرعة، فإن حرباً اقليمية ستنفجر، مع كل ما تحمله من فظائع اضافية. * كاتب بريطاني خبير في قضايا الشرق الأوسط