بعد 12 رحلة الى الشرق الأوسط في سنتين تبدأ الدكتورة كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، غداً الرحلة الثالثة عشرة، ولعلها تتجاوز نحس رقم الرحلة فلا تعود خاوية الوفاض مرة أخرى. الاستراتيجية الأميركية الجديدة هدفها ايران أكثر منها العراق، والقضية الفلسطينية هي"شحم الموتور"الذي تأمل الادارة الأميركية باستخدامه أن يسير محرك الدعم العربي في الاتجاه الذي تريد. ربما كانت الادارة الأميركية صادقة هذه المرة في طلب مفاوضات على الوضع النهائي، فحل القضية الفلسطينية التي أعيت العالم عقوداً، سيضمن لجورج بوش ارثاً سياسياً يغطي على ألف فشل، ثم انه سيسهل حل غالبية المشاكل الاخرى في المنطقة. غير أنني لو سئلت اليوم أن اغامر برأيي، فسأقول ان الادارة ستفشل كما فشلت في كل عمل سابق لها، وتوقيت الاجتماع الثلاثي سيئ، فإيهود أولمرت وأبو مازن في وضع ضعيف ويواجهان تحديات والفلسطينيون أمام مخاض حكومة تحفظت عنها ادارة بوش قبل اعلانها. الديبلوماسية السعودية اختارت أن توفق بين الفلسطينيين جميعاً. أما الادارة الأميركية واسرائيل فاختارتا أن تدعما السلطة الوطنية والرئيس محمود عباس ضد"حماس"، مع أن الفلسطينيين بحاجة الى اتفاق في ما بينهم، قبل أن يتفقوا مع طرف آخر، وهو ما تحقق في مكةالمكرمة بإشراف الملك عبدالله بن عبدالعزيز. في المقابل، رئيس الوزراء ايهود اولمرت افرج عن مئة مليون دولار للسلطة الفلسطينية متجاوزاً الحكومة وأميركا خصصت 128 مليون دولار لتدريب وتجهيز قوات موالية للرئيس عباس، والأخ محمد دحلان"فاتح على حسابه"ويتلقى السلاح من مصادر عدة، والآن تريد الدكتورة رايس من أولمرت وأبو مازن دخول مفاوضات ثنائية لا تبدو اسرائيل متحمسة لها، فيما أبو مازن يرفض أي اتفاق موقت ويصر على البحث في تسوية نهائية... وكل هذا وحماس فازت في الانتخابات بطريقة ديموقراطية جداً. الموقف الأميركي من سورية أسوأ، فالدول العربية كافة تريد من الولاياتالمتحدة أن تفاوض سورية وايران، إلا أن ادارة بوش لا تفعل بل إنها تمنع اسرائيل من التفاوض مع سورية، وثمة معلومات متطابقة من مصادر اسرائيلية وأميركية وعربية عن الموضوع وجدتها غير منطقية في البداية فلم أصدقها، غير أنها تكاثرت وبتّ مقتنعاً بصحة مصدرها، فإدارة بوش اختارت مواجهة سورية مع ايران بدل أن تسعى للفصل بين الأولى والثانية، خصوصاً أن المشكلة الحقيقية مع ايران، إن لجهة برنامجها النووي، أو تنامي نفوذها في العراق. الحكومة السورية صرحت غير مرة بأنها مستعدة للتفاوض مع اسرائيل، وقد سمعنا كلاماً بهذا المعنى من الرئيس، ومن المشاركين السوريين في مؤتمر مدريد الشهر الماضي الذي عقد في الذكرى الخامسة عشرة لمؤتمر مدريد، والحكومة الاسرائيلية تريد التفاوض لأن النجاح على المسار السوري سيغطي على فشلها في الحرب على لبنان، غير أن ايهود أولمرت الضعيف ليس في وضع يمكنه من تجاهل الرغبة الأميركية. اسخف ما في الموقف الأميركي من سورية أن هذه قادرة على التأثير في الموقف الايراني اذا وجدت أن مفاوضاتها مع اسرائيل تسير في شكل ايجابي، وأن الدول العربية"المعتدلة"التي تحاول الادارة الأميركية استمالتها ضد ايران بالعمل على النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، ستكون أكثر استعداداً للمساعدة اذا انضمت سورية اليها، فهي كلها تريد أن تعود سورية الى حظيرة العمل العربي المشترك. ثم ان أي حل"شامل"للنزاع مع اسرائيل لا يستحق اسمه اذا لم يشمل سورية. ربما زدت هنا أن ادارة بوش تسعى الى ضمان دعم الدول العربية لموقفها ضد ايران كأن عند هذه الدول ما تقدم. وأختار مصر مثالاً، فهي أكبر الدول العربية، وقد نصحت في بداية الحرب على العراق وحاولت المساعدة، إلا أن ادارة بوش استبعدتها، فلم تطلب منها سوى تدريب عدد محدود جداً من العناصر العسكرية. واليوم تطلب الادارة الأميركية مساعدة مصر لانجاح استراتيجيتها الجديدة في العراق، وهي التي استبعدتها عن الوضع العراقي وللتعاون ضد ايران التي لا توجد لمصر علاقات ديبلوماسية معها منذ أكثر من 20 سنة. أشعر بأن المتاجرة الأميركية بالقضية الفلسطينية دليل ضعف لا قوة، فقد جاءتنا الدكتورة رايس يوماً لتبشر بالديموقراطية، وكسرت الشوكة الأميركية في العراق فعادت الى الدول نفسها، وقد نسيت حديث الديموقراطية وأصبحت تحدثنا عن القضية الفلسطينية، وهي تقصد ايران. أريد كمواطن من الشرق الأوسط أن تكون منطقتنا خالية من أسلحة الدمار الشامل، ولا استثني ايران اذا لم تستثنِ الولاياتالمتحدة اسرائيل، فالادارة الأميركية لن تقنع أحداً في الشرق الأوسط بأن ايران خطر على دول المنطقة وشعوبها، أما اسرائيل فلا خطر منها البتة. والواقع أن الادارة الأميركية تفعل ما هو أسوأ، فهي تعتقد بأنها تستطيع اقامة حلف من الدول"المعتدلة"في الشرق الأوسط يضم اسرائيل النووية ضد ايران. لا أقلل من خطر البرنامج النووي الايراني أبداً، إلا أنني أجد الخطر من اسرائيل أقدم وأكبر، ولا بد من أن الدول العربية، معتدلة أو غير ذلك، تقدر الخطرين، ثم تقدر أن الادارة الأميركية لا تتعامل معهما بما يطمئن أو يبشر بالنجاح.