يكشف قرار رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت اعادة اجتياح قطاع غزة بسبب اختطاف جندي اسرائيلي مدى افتقاد أولمرت الثقة بالنفس ويثبت فشل سياسة فك الارتباط أحادياً التي يريدها في الضفة الغربية بعدما فرضها سلفه ارييل شارون في غزة. هذا القرار الخائب يأتي خطوة أخرى في سلسلة مواقف مخيبة للأمل اتخذها اولمرت منذ تسلمه السلطة وأبرزها تفادي هذا الرجل للحل التفاوضي وهروبه من الشراكة مع القيادة الفلسطينية المخولة بالتفاوض دستورياً والمتمثلة بالرئيس محمود عباس. أولمرت يجد في حركة"حماس"شريك الأمر الواقع الذي يوفر له مبرر التهرب من الحل التفاوضي، ويؤمن له ذريعة الانتقام العسكري، ويحشد وراءه الدعم الدولي حتى وهو يفتك بالفلسطينيين ويدمر البنية التحتية للكهرباء والمياه ويضيق الخناق الاقتصادي لدرجة التجويع. فالفلسطينيون يدفعون ضريبة باهظة لشراكة الأمر الواقع بين اسرائيل وبين حكومة"حماس"وحلفائها من منظمات ودول وعلى رأسها ايران وسورية. وتطورات هذا الاسبوع بالذات أبرزت الدور السوري المباشر في المسألة الفلسطينية وأدت باسرائيل الى توجيه انذار سيكون لكيفية ونوعية التجاوب السوري معه دلالات اقليمية، وفيما يرجح ان تعالج أزمة الجندي الاسرائيلي، فإن الاتفاق بين عباس وحركة"حماس"والفصائل الفلسطينية على ما يعرف ب"وثيقة الأسرى"يشكل منعطفاً مهماً في العلاقة الفلسطينية - الفلسطينية، لكنه يبقى رهن تلاعب القوى الخارجية به وعلى حساب الفلسطينيين. والخوف ان يستمر انزلاق المسألة الفلسطينية من مرتبة"القضية"الى حادثة اختطاف جندي وشق نفق أو الى مزاج فصائل فلسطينية تخدم دولاً لها مصالح ثمنها البؤس الفلسطيني، فيما تسترخي اسرائيل في ممارسة الظلم والاستبداد والاحتلال القبيح اخلاقياً واجرائياً. الشعوب العربية، كما القيادات، تبيع الفلسطينيين العواطف والشعارات وتزايد عليهم وطنياً ومقاومة وحتى"انتحارياً"وحرباً. هذه الشعوب لا تسعى الى الالتحاق بصفوف المقاومة العسكرية للاحتلال الاسرائيلي بل انها تترفع عن الخروج في تظاهرات، ورغم ذلك فهي تصرخ وتبالغ وتتوعد في الغرف المكيفة من دون ان تدقق في افرازات التصعيد من دون استراتيجية أو دعم ملموس وفعلي. حقيقة الأمر ان هذه الشعوب تؤذي الفلسطينيين بأضعاف ما تعتقد أنها تساعدهم. انها ترفع العتب وتداوي شعورها بالذنب، كذلك على حساب البؤس والألم الفلسطينيين. الأميركيون من جهتهم دمروا البوصلة الاخلاقية لديهم ذات العلاقة بالفلسطينيين. انهم لا يدفنون الذنب في التملص من المسألة كما يفعل الأوروبيون وانما ينطلقون من سذاجة مذهلة تأخذ التاريخ من زاوية آخر حدث يتطابق مع ما أنجزه"غسل الدماغ"عبر العقود ليجعل من اسرائيل"الضحية"للعرب والفلسطينيين. أفعال الفصائل الفلسطينية لم تساعد ابداً في تغيير الرأي الأميركي الذي أوشك على تقبل القضية الفلسطينية لكونها عادلة. فهذه الفصائل اثبتت انها نابغة في توقيت عمليات انتحارية وارهابية تماماً عندما كان الرأي العام الاميركي جاهزاً لتحول نوعي نحو الفلسطينيين في المعادلة الاسرائيلية - الفلسطينية. إدارة جورج بوش كادت ان تحقق نقلة تاريخية في السياسة الاميركية نحو النزاع العربي - الاسرائيلي وبالذات نحو فلسطين. كان ذلك في بداية عهدها، لكن مزيج اللوبي الاسرائيلي وتوقيت العمليات الانتحارية ضد المدنيين كبّل يدي بوش سيما وان أقطاب ادارته سقطوا في فلك اللوبي. فلقد تحدث بوش في البدء عن إنهاء الاحتلال الاسرائيلي الذي وقع عام 1967 في إطار حديثه عن رؤية الدولتين. لكن اللوبي اليهودي جند جيشه داخل الادارة الاميركية وفي الاعلام بكل حذاقة ودقة كي يتسلق الرئيس الاميركي السلم نزولاً. وما ساعد هذا اللوبي أكثر من اي شيء آخر، هو المساهمة"الانتحارية"، وهكذا كان، تراجعت ادارة بوش من حافة النقلة النوعية وفعلت تماماً ما فعلته كل ادارة أميركية قبلها، وهو التملص من الاقدام على معالجة القضية الفلسطينية. اليوم، تبدو ادارة بوش غارقة في العراق لدرجة الهوس الذي يعمي عن ضرورة تناول الأمور الأخرى الضرورية، ولا تريد ان تدخل في دهاليز البحث عن حل للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. منطقياً، يفترض ان يفهم أقطاب هذه الادارة ان حل هذا النزاع يساهم جذرياً في معالجة شتى الهموم الاميركية، وبينها العراقوايرانولبنان وما تسميه الحرب على الارهاب. لكن عقلية الغمامات تحول الاميركيين الى حصان غير قادر سوى على رؤية ما أمامه فوراً وليس ما الى شماله ويمينه. ثم هناك الاعتبارات الانتخابية شبه الدائمة حيث لنفوذ اليهود الاميركيين مكانة مميزة تؤخذ عنصراً اساسياً في الحسابات. وهذا ما يستغله كل رئيس حكومة اسرائيلية عندما يشاء. ايهود اولمرت مقتنع بأن مهمته هي تطبيق اسلوب فك الارتباط مع الضفة الغربية في حل أحادي يفرضه كي لا تؤدي المفاوضات مع الطرف الفلسطيني الى مساومات على"الحدود"التي يريدها أو الى التنازل عن مستوطنات. لا يريد أن يستخدم الشريك المفاوض أي"فيتو"على الخريطة التي في ذهنه. لذلك لا يريد اولمرت شريكاً في المفاوضات شأنه شأن ارييل شارون قبله. لذلك، انه يتهرب باستمرار من الشراكة مع محمود عباس، المخول القيام بالتفاوض السياسي على الوضع النهائي للأراضي، بموجب اتفاقيات أوسلو التي أدت الى قيام السلطة الفلسطينية. وهو يتملص من فكرة التفاوض على الوضع النهائي للضفة الغربية وغزة التي احتلتها اسرائيل عام 1967 لأنه يرفض المساومة على أساس حدود 1967. ما لم ينجح فيه ايهود اولمرت مع جورج دبليو بوش هو اقناعه بمباركة فرض فك الارتباط احادياً على الضفة الغربية كبديل عن"خريطة الطريق"الى رؤية قيام دولة فلسطين بجانب دولة اسرائيل عبر المفاوضات بهدف انهاء الاحتلال واستبداله بالتعايش والتطبيع. ما نجحت فيه اسرائيل ومعها اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة هو محو تعبير"الاحتلال"من القاموس السياسي للادارة الاميركية ومن الاعلام. وهي الآن تريد محو"خريطة الطريق"واستبدالها بتعابير فك الارتباط وما يشابهها. اولمرت في حاجة الى فترة زمنية لاستكمال الخريطة التي يريد فرضها على الأرض من خلال الجدار الفاصل وغيره. ولذلك سيبقى في تملص من التفاوض وسيتخذ الاجراءات التي تؤدي الى انهيار السلطة الفلسطينية، وسيمضي في ضرب الخناق الاقتصادي والاجتماعي والمعنوي على الفلسطينيين، وسيستفيد من الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية متمنياً لها أن تؤدي الى حرب أهلية. فالمسيرة منذ أن ألقى اولمرت خطاب الفوز في الانتخابات الى"الحوار"الذي أجراه معه ايلي ويزل الاسبوع الماضي في مؤتمر البتراء للحاصلين على جائزة نوبل للسلام مسيرة مخيبة للأمل في رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد. كلامه في البتراء"هز بدن"المشاركين الأكثر اعتدالاً وأهان ليس فقط الرئيس الفلسطيني الذي كان التقاه قبل دقائق وانما أهان كامل الحضور العربي. ومنذ ان نجح العاهل الأردني الملك عبدالله في جمع عباس واولمرت في مؤتمر البتراء للاتفاق على لقاء يعد له، دخل الاعداد دهاليز المماطلة بقرار اسرائيلي وبمساهمة جدية من"حماس"والفصائل الفلسطينية الأخرى والأطراف التي تدعمها والتي لها أجندة غير"القضية"الفلسطينية وعلى رأسها سورية وايران. ايران اليوم ترهن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ورقة في طموحاتها الاقليمية والنووية. انها تستخدم المعاناة الفلسطينية لتحقيق مصالح ايرانية، وهي تهدد وتؤكد بكل وقاحة، مع قادة عرب وليس فقط بصورة مبطنة مع الأميركيين، بأنها تمتلك"حماس"وشتى الفصائل الفلسطينية والقرار الفلسطيني أيضاً. حكومة الرئيس محمود احمدي نجاد تتباهى بنفوذها مع المنظمات الفلسطينية الى جانب نفوذها وتمويلها ل"حزب الله"في لبنان، وهي تتاجر بكل ما من شأنه أن يعزز لعبتها النووية وسعيها وراء الزعامة الاقليمية. انها تعمل على اخراج القضية الفلسطينية من بعدها العربي لتصبح ركناً لايران في أحلام هيمنتها على العرب في منطقة الشرق الأوسط وتربعها مع تركيا واسرائيل في مواقع"العظمة"الاقليمية. لذلك، من مصلحة ايران ان يتعطل التوافق الفلسطيني - الفلسطيني وأن تفشل حلول التفاوض والتعايش للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. فاستمرار هذا النزاع يخدم المصالح الايرانية وهو لا يكلف طهران أرواحاً ايرانية وانما مجرد أرواح فلسطينية. حكومة أحمدي نجاد ليست أبداً في وارد دخول حرب مع اسرائيل لتحرير فلسطين. فهذا غير مطروح أبداً على الطاولة. حتى ولو ضربت اسرائيل مواقع مفاعلات نووية في ايران ولو دخلت المنطقة برمتها في حرب اقليمية، انها ليست من أجل فلسطين ولا هي ضد اسرائيل. انها من أجل ايران وطموحاتها النووية والاقليمية. أحداث هذا الأسبوع حجبت عن إيران المسؤولية المباشرة وركزت الأنظار بدلاً من ذلك على المساهمة السورية في التطورات الفلسطينية. فطهران أحياناً فوق المحاسبة حتى وإن كانت العملاقة في الشراكة مع سورية، إنما ما حدث هذا الأسبوع يبقى في غاية الأهمية لما ينطوي عليه من رسائل دولية وإسرائيلية الى دمشق. فالأمين العامم للأمم المتحدة كوفي أنان اعتبر الرئيس السوري بشار الأسد صاحب"نفوذ"في الوضع الفلسطيني - الإسرائيلي المتأزم نتيجة اختطاف الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت، إذ أجرى اتصالاً هاتفياً معه بصفته صاحب"دور"في جهود"ضمان اطلاق سراح الأسير"، وكذلك"بسبب وجود فصائل حماس في سورية - فصيل خالد مشعل"، حسبما قال أنان. الاتصال الهاتفي الذي بادر إليه أنان مع الأسد جديد من نوعه، إذ أنه خُصص لبحث العلاقة السورية بالمسألة الفلسطينية. هذا الاتصال كشف أن الامين العام يعتقد أن الذين يتخذون القرارات في الشأن الفلسطيني ليسوا فقط قادة الفصائل الفلسطينية في دمشق، وإنما هؤلاء يقعون تحت نفوذ الرئيس السوري. الرسالة الإسرائيلية الى القيادة السورية والتي تمثلت في تحليق الطيران فوق بيت الرئيس السوري رسالة تحذير وانذار بأن ايهود أولمرت لن يقف متفرجاً على الدور السوري الراعي للفصائل الفلسطينية مباشرة ونيابة عن ايران. وهذا الانذار يضع القيادة السورية أمام استحقاقات وقرارات مهمة، إذ أنها لا تريد أن تخوض حرباً مع إسرائيل ولا هي في صدد تفعيل الجبهة السورية لتكون جبهة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي. وهذا يترك الفلسطينيين تحت الاحتلال بين فكي الكماشة الإسرائيلية والمصالح السورية - الإيرانية، فلا الحرب خيار أمامهم، ولا التحرير العسكري ولا المقاومة عبر كامل الحدود العربية مع إسرائيل. لذلك يواجه الفلسطينيون مأساة استخدامهم وابتزاز معاناتهم سلعة في الحسابات الاقليمية التي تقودها الحكومة الإيرانية وحلفاؤها في المنطقة، وكأن القهر والظلم اللذين يعانونهما على أيادي إسرائيل القائمة بالاحتلال ليس كافياً. هذا البعد الاقليمي لا يبرئ الفصائل الفلسطينية من المحاسبة، بل انه يفاقم مسؤوليتها في وضع القضية الفلسطينية تحت خدمة الطموحات الاقليمية لغير الفلسطينيين. مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حق فلسطيني طالما ترفض إسرائيل انهاء الاحتلال والتفاوض على حل سلمي. واقع الأمر أن آفاق المقاومة العسكرية مغلقة، وأن العمليات التي تسميها فصائل فلسطينية مقاومة ليست سوى أدوات تستخدمها إسرائيل في سياسة الانتقام ومن أجل تعزيز خططها. التهجير الجماعي للفلسطينيين من داخل إسرائيل خطة وُضعت على الرفوف لكنها قابلة للاحياء اذا تقدمت الفصائل الفلسطينية بالذرائع والمبررات لإسرائيل. وهذا ما يجب على هذه الفصائل التفكير به عندما تُقدِم على مغامرات تكتيكية. فلا مكان للصبيانية الآن، إذ أن العواقب وخيمة على الشعب الفلسطيني الذي كفاه احتلال واستغلال فيما العالم يتفرج على مآسيه ويبارك"الانتقام"الإسرائيلي بعقاب جماعي بصفته"حق دفاع عن النفس". الاتفاق بين"حماس"التي تقود الحكومة الفلسطينية وبين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على"وثيقة الاسرى"اتفاق جيد من الضروري أن يُؤخذ بجدية، وأن يتبعه تشكيل حكومة جديدة. فلا يكفي أن تندفع الفصائل الفلسطينية الى الاتفاق عندما تحشد إسرائيل مدرعاتها. إنها مطالبة باستراتيجية وطنية تُخرج القضية الفلسطينية من بازار الابتزاز الاقليمي والمزايدة بالعواطف والهتافات، وتتحصن ضد حرب أهلية فلسطينية، وتدرس بجدية سيناريوات افرازات المغامرات كي لا تقدم الخدمات والذرائع للخطط الإسرائيلية. راغدة درغام - نيويورك