وصفت الصحف الأميركية زيارة كوندوليزا رايس للمنطقة بأنها شبيهة بزيارة هنري كيسنجر في أعقاب حرب 1973. وكانت بهذه المقارنة تريد الإيحاء بأن"حرب العبور"سهلت مهمة كيسنجر، ووفرت له ظروف الاختراق السياسي، بعكس حرب حزيران 1967 التي انتهت بتوسيع الاحتلال الاسرائيلي. ويبدو أن لهذه المقارنة دلالات سياسية واضحة ظهرت في مقاطعة وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني للجلسة الخاصة التي عقدها مجلس الأمن في 21 من الشهر الماضي لبحث الملف الفلسطيني - الاسرائيلي. والملفت ان الوزيرة رايس اشتركت في تلك الجلسة، وشجعت وزراء خارجية الدول الدائمة العضوية، على الحضور. اضافة الى هذه الخطوة، فإن الرئيس جورج بوش طلب من رايس الموافقة على قرار الرباعية الدولية القاضي بدعم حكومة وحدة وطنية فلسطينية تشارك فيها حركة"حماس"، وقرأ ايهود اولمرت في هذه المبادرة تغييراً واضحاً في موقف الادارة تجاه سياسته، خصوصاً ان بوش لم يستشره ولم ينسق معه. وفسرت الصحف الاسرائيلية هذا التجاهل بأنه إقرار بفشل اولمرت في ربح الحرب ضد"حزب الله"و"حماس". كما أنه إقرار آخر بفقدان ثقة الرئيس بوش بقدرة الحكومة الاسرائيلية على قيادة مشاريع السلام. ولكن التحرك الأميركي اصطدم بعقبات جمة أدت الى تعطيل مهمة رايس، والى إعادة النظر في الوساطة التي حملتها. وقد اعترفت أثناء وجودها في القاهرة، بأن الرئيس بوش يتطلع الى انجاز سلام اسرائيلي - عربي يتم من خلاله التوصل الى تسوية سياسية فلسطينية - اسرائيلية. وأخبرها قبل سفرها، ان هذه الرغبة نابعة من وعد بإقامة دولة فلسطينية خلال السنتين الأخيرتين من ولايته. وتحدث عن مشروع"خريطة الطريق"وكيف ان وفاة ياسر عرفات ووصول حركة"حماس"الى السلطة، عرقلتا كل المساعي التي قام بها. وهو طبعاً لم يذكر العقبات التي زرعها الاسرائيليون في طريق التسوية كبناء جدار الفصل، وتوسيع المستوطنات، والاستفراد بالحلول الاحادية الجانب. على الصعيد الفلسطيني، وصلت كوندوليزا رايس الى رام الله في أسوأ الأوقات وأكثرها حدة وتوتراً. وأخبرها الرئيس محمود عباس كيف تدخلت سورية بواسطة خالد مشعل المقيم في دمشق، لنسف البرنامج الذي اتفق عليه مع رئيس الوزراء هنية، أي برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي استندت الى مبادرة السلام العربية، كمرجعية ملزمة ل"فتح"و"حماس"معاً. وتضمن البرنامج قائمة بأسماء المطلوبين من المساجين الفلسطينيين مقابل اطلاق سراح الجندي الاسرائيلي المخطوف غيلعاد شليت. وأعطى ابو مازن الوسيط المصري اسمي مروان البرغوثي وأحمد سعدات، علماً بأنه يعرف جيداً ان اسرائيل لن تفرج عنهما. وفي تفسير نشرته صحيفة"هآرتس"وذكرت فيه ان محمود عباس تعمد إفشال صفقة التبادل نظراً الى الصعوبات التي يضعها في طريقه خالد مشعل. لذلك ضم البرغوثي وسعدات الى صفقة يصعب تنفيذها، كي لا يعطي"حماس"ميزة اضافية بأنها قادرة على استعادة أسراها. لهذا السبب وسواه، يتهمه وزير الداخلية سعيد صيام حماس بأنه كان وراء تظاهرات الاحتجاج من قبل رجال أمن لم يقبضوا رواتبهم منذ سبعة شهور. ووصف صيام أعمال العنف بأنها حركة تمرد ضد السلطة الحاكمة. يقول المراقبون في الأممالمتحدة ان الأزمة التي نشأت عن حرب اسرائيل -"حزب الله"، أظهرت وجود تيارين سياسيين داخل المجتمع الدولي: تيار أميركي يستبعد"حماس"و"حزب الله"وسورية وايران، من أي تسوية تعقد بين الفلسطينيين واسرائيل. وتيار فرنسي يرى أن هناك فرصة للسلام مع كل الأطراف المعنية وأنه لا يجوز استبعادها. وحجته ان السلام يعقد بين الأعداء، خصوصاً إذا أدى الاقتتال الى انتحار الطرفين. ويؤمن الرئيس جاك شيراك بأن تطبيق مبادرة السلام العربية التي أعلنها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية في بيروت، يمكن أن تؤسس الى اتفاق سياسي يشمل كل العرب والمسلمين. وهذا ما تضمنه البيان المشترك الذي صدر أثناء زيارة ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، لباريس في تموز يوليو الماضي. ويعتقد شيراك ان هناك عوائق عدة لا تسمح بتطبيق مشروع"خريطة الطريق"لأن جورج بوش يشترط وقف"الارهاب"للبدء في التفاوض. ولكن هذا الشرط يخالف منطقه بالنسبة الى ممارسة الديموقراطية. لذلك فوجئ بالنتائج التي حصلت عليها"حماس"في الانتخابات الفلسطينية، كما فوجئ بالدعم الشعبي الذي أغدق على"حزب الله"اثناء الحرب مع اسرائيل. إضافة الى هذه السلبيات، فإن"خريطة الطريق"لا تعطي دولة فلسطين حدود حزيران يونيو 1967، في حين تقدم المبادرة العربية تسوية شاملة لإنهاء النزاع الاسرائيلي - العربي. وهذا ما دفع فرنسا الى المطالبة بربط مراحل"خريطة الطريق"بمراحل تحقيق السلام الشامل بين الدول العربية واسرائيل على اساس الخطة السعودية آذار/ مارس 2002. يجمع الديبلوماسيون في واشنطن على القول ان اخفاق الآلة العسكرية الاسرائيلية في حرب ال33 يوماً، اضعفت الموقف السياسي الذي تبناه ايهود اولمرت في مطلع الاشتباكات، كما اضعفت في الوقت ذاته، دعم جورج بوش لحكومته على اعتبار أنها فشلت في المحافظة على اسطورة الجيش الذي لا يقهر. ويبدو ان اولمرت حاول تعويم سياسته تجاه القوى المطالبة باستقالته ومحاكمته، فإذا به يعلن ان مرتفعات الجولان هي جزء لا يتجزأ من دولة اسرائيل. وكان واضحاً انه يريد ترميم موقفه المتداعي تجاه الرئيس بوش، بدليل انه فسر دوافع ضم الجولان الى غضبه من الرئيس بشار الاسد. والسبب كما أعلنه، ان الأسد يواصل دعم الارهاب في العراق ضد القوات الاميركية، وانه يزود"حزب الله"بأحدث الاسلحة. وظهر في التحقيقات التي أجرتها أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية، ان تحصين الدبابات كان بمثابة المهمة الأولى التي بدأ الجيش بتنفيذها بعد وقف اطلاق النار. ذلك ان الصواريخ المضادة للدروع حطمت اسطورة دبابة"الميركافا"التي تعتبر الدبابة الأكثر تحصيناً في العالم. وتزعم وزارة الدفاع الإسرائيلية ان سورية هي التي أمنت هذا النوع من الصواريخ الروسية الصنع. ولكن تصريح أولمرت بالنسبة الى مستقبل الجولان، أُعتبر تغطية إعلامية غير مقنعة لما حدث في صمت بعد الهجمات التي قامت بها المروحيات الإسرائيلية في منطقة بعلبك. ذلك أن رئاسة الأركان في دمشق توقعت أن تكون العمليات القريبة من الحدود السورية هي مجرد جس نبض بهدف اتباعها بعملية انزال ضخمة. وتحاشياً لأي خطأ في التقدير، أعلنت قيادة الجيش السوري الاستنفار العام، ووضعت الدبابات والطائرات الحربية في حال التأهب القصوى. ورصدت الأقمار الاصطناعية الأميركية هذا الوضع المتوتر، فإذا بواشنطن تنقل الى الحكومة الإسرائيلية صورة عن الموقف المستجد. وبعد أقل من ساعتين تلقى ثلاثة رؤساء عرب تطميناً من أولمرت يتعهد فيه بعدم الاعتداء على سورية في حال لم تتدخل في الحرب الجارية على أرض لبنان. بعد فشل المغامرة العسكرية الإسرائيلية في لبنان، تتوقع الإدارة الأميركية تغييراً كاملاً في نظرة دول المنطقة إلى امكاناتها الحربية، وإلى وسائل الدفاع التي اعتمدتها في السابق. ومعنى هذا أن الانفجار الثاني قد يحصل في أي مكان وأي زمان، لأن الحسم النهائي لم ينضج بعد، خصوصاً أن هزيمة أولمرت لن تسمح له بتقديم تنازلات عن بعض المكاسب، لأن المنتصر وحده يستطيع اقناع الشعب بمصداقية موقفه. من هنا تبدو ترجيحات افتعال حرب ثانية بهدف إحياء الظروف التي قادت الى مؤتمر مدريد. والمعروف ان ذلك المؤتمر عقد إثر حادثين بارزين: نهاية الحرب الباردة، وانتصار التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية. ومع أن مؤتمر مدريد تشرين الأول/ اكتوبر 1991 لم يحمل في نتائجه انجازات مهمة، إلا أنه عبّد الطريق لمفاوضات اسرائيلية - عربية. وأدى في نهاية المطاف، الى اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين والى توقيع معاهدة سلام مع الأردن. يقول العقيد الاسرائيلي شاؤول ارئيلي، وعضو"مجلس السلام والأمن"ان الانتصار العسكري في حرب حزيران 1967 كرس الاعتراف بوجود اسرائيل، ولكنه لم يوفر لها الهدوء والأمن. وفي المقابل، أدى انتصارها المتواضع في حرب العبور 1973 الى تكريس الهدوء والأمن على الحدود مع مصر طوال ثلاثة عقود. وخلاصة العبر المستقاة من الحرب مع"حزب الله"هو أن الدولة العبرية لا تستطيع الحصول على الاستقرار من خلال قوتها العسكرية فقط. ومعنى هذا ان تنازلها عن المحاولات الأحادية الجانب أصبح ضرورة يفرضها سقوطها في الامتحان الحربي الأخير، كما يفرض عليها استئناف الحوار والتفاوض مع الفلسطينيين وسورية ولبنان. كل هذا قبل أن تقتنع حكومة اولمرت بأن جولة ثانية من الحرب، قد تحمل ايران وسورية على الامتثال لقرارات الأسرة الدولية. ولكن حدوث هذه المغامرة قد يقوض نفوذ الولاياتالمتحدة في المنطقة، ويفقدها دور الوسيط في أزمات الشرق الأوسط. ومن المؤكد أن روسيا التي طردت من افغانستان ستستغل هذه الفرصة لطرد الجيش الأميركي من العراق بواسطة الملف النووي الايراني! * كاتب وصحافي لبناني