"فيس فصال ... فيس فصال"، صاحت البائعة في وجه نساء مصريات في ناد اجتماعي ورياضي شهير، فيما كن يحاولن إقناعها ببيعهن كنزة ب 30 جنيهاً بدلاً من 35. وتعني "فيس فصال" عبارة "مافيش فصال" باللهجة المصرية، ولكن باللكنة الصينية. هذه البائعة واحدة من مئات الرعايا الصينيين الذين يستأجرون أماكن لبيع بضائعهم في النوادي الاجتماعية في المدن المصرية الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية، وغالبية هؤلاء دخلوا مصر سائحين، ويفترض بالتالي أنهم يضخون الأموال في البلد من خلال سياحتهم تلك. ولكن واقع الحال يشير إلى أن نسبة غير قليلة من أولئك"السيّاح"، يأتون بغية الإفادة مادياً من الإقامة في مصر من خلال تجارة غير مشروعة. وعلى رغم أن ظاهرة البضائع الصينية في الأسواق المصرية ليست جديدة، إلا أن انتشارها الواسع بواسطة بائعين صينيين، وليس عبر الاستيراد يستدعي الانتباه. ففي عيد الفطر الماضي، فوجئ المصريون الذين يفاخرون بأنهم ملوك صناعة كعك العيد، بعلب من الكعك الصيني تقل أسعارها عن نصف مثيلتها المصرية. كما تحولت استعدادات الأعياد ودخول المدارس والجامعات والمواسم... مناسبات صينية بحتة. فملابس العيد صينية، وكراسات المدارس وأقلامها وسائر مستلزماتها صينية، والملابس الداخلية والجوارب صينية... والقائمة طويلة جداً. والأكثر غرابة هو أن أسواق الخضروات والفواكه أصبحت هي الأخرى عامرة بالثوم الصيني العملاق والتفاح الصيني الضخم، بل إن محال"التسالي"التي كانت مخصّصة حتى وقت قريب لبيع الفول السوداني واللب بأنواعه، أفردت قسماً خاصاً للتسالي والمقرمشات الصينية التي تباع بنحو 26 جنيهاً للكيلوغرام الواحد. وقبل نحو عقد من الزمن، قامت الدنيا حين فوجئ المصريون الذين كانوا ملوك تصنيع فوانيس رمضان بملايين القطع الصينية البلاستيكية التي ملأت الأسواق. ولم يكتفِ الصينيون بذلك، بل راحوا يُحسِّنون نوعية فوانيسهم سنة بعد أخرى، في محاولات ناجحة وموفقة للسيطرة على السوق المصرية تماماً. فباتت فوانيس الصين تتغنى بصوت مصطفى قمر وعمرو دياب وتامر حسني، إضافة إلى نجمات الفيديو كليب مثل نانسي عجرم وإليسا وهيفاء... وغيرهن. ولم تقتصر المنافسة الصينية للمصريين على فوانيسهم وكعكهم وثومهم فحسب، بل تعدتها إلى شارع عبد العزيز الأشهر في وسط القاهرة، حيث سوق الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية الرخيصة. فظهرت كل أنواع الأجهزة الصينية التي تداعب المشاعر الدينية للمصريين. فهذا هاتف إسلامي رنَّته أذان الصلاة، وذلك هاتف خليوي يرن في مواقيت الصلاة ويشدو بأغاني رمضان في الشهر الفضيل، ويهنئ بالسنة الهجرية في أول محرم، وبالمولد النبوي الشريف في ربيع الأول... وهكذا. والأهم من ذلك كله، أن تلك البضائع الإلكترونية والكهربائية تغازل جيوب البسطاء ممن يحلمون بامتلاك جهاز فيديو أو"دي في دي"أو"سي دي بلاير"بأسعار في متناول أيديهم، ولو كان ذلك على حساب جودة المنتج. أما النساء الصينيات، فرحن يجلن على البيوت المصرية، يتاجرن بالملابس الداخلية النسائية والمفروشات المنزلية البراقة ذات الأسعار الجذابة، خصوصاً في المناطق الراقية. كما يخترن بكل ذكاء البيوت والعمارات التي يبدو على قاطنيها الثراء، أو على الأقل القدرة على الشراء. ومع مرور الوقت، لم تكتفِ"تاجرات الشنطة"ببيوت الأثرياء، بل صنَّفن بضائعهن واخترن منها ما يصلح للأسر البسيطة في المناطق الشعبية، وحققن نجاحاً ملحوظاً في تلك المناطق... حتى بتن على دراية كاملة بأذواق المصريين، خصوصاً النساء والفتيات في ملابس النوم والمفروشات البراقة الزاهية الألوان، والأهم من ذلك أنها تحمل عبارة تفيد بالإنكليزية أنها لم تصنع في مصر، أي أنها بضاعة أجنبية، بمعنى آخر رمز للتباهي والتفاخر. منظر السيدات الصينيات وهن يجلن على البيوت المصرية حاملات حقائب ضخمة متخمة بالبضائع، أعاد إلى الأذهان الشكل القديم ل"تجارة الشنطة"التي انتعشت في مصر في أزمنة سابقة، وهي تحوي بضائع مهرَّبة من غزة أو ليبيا، أو من مدينة بور سعيد حين كانت"بوتقة"للسلع الأجنبية من دون جمارك. حتى الإسفلت المصري طاولته البركة الصينية، فباتت السيارات الصينية ذات المظهر الجذاب والألوان العجيبة، من زهري وبنفسجي، تسطع في شوارع القاهرة، محققة رغبة الكثيرين من أبناء الطبقات المتوسطة في تحقيق حلم ركوب سيارة"على الزيرو". المثير في الأمر أن عدداً غير قليل من الطلاب الصينيين الموفدين للدراسة في مصر، خصوصاً المسلمين منهم، ينخرطون في شكل أو آخر، في دنيا التجارة أثناء إقامتهم في المحروسة. فيعملون على تسويق منتجات مصانع أو منافذ صينية في القاهرة مثلاً، ويقومون بمهمة الترجمة بأجر لوكلاء هذه الشركات والمصانع أثناء زياراتهم مصر. وإذا كانت البضائع الصينية انتشرت انتشاراً غير مسبوق على أرصفة القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن وفي محالها ومراكزها التجارية، وفي نواديها الاجتماعية والرياضية، وفي شوارعها التجارية، بصرف النظر عن أثر ذلك في البضائع المصرية ومدى جودتها، فإن المؤكد هو أن الصينيين يسيطرون على قسم كبير من حركة البيع والشراء في مصر، وإن كان حساب حجم ذلك الجانب أمراً شبه مستحيل، نظراً الى اعتماد جزء غير قليل منه على"تجارة الشنطة"غير الرسمية. أما الشعار الثابت الذي يرفعه"تجار الشنطة"الصينيون في مصر، فهو"فيس فصال".