منذ استئناف العلاقات الروسية - السعودية في العام 1990 شهد التعاون بين البلدين تطوراً تزايدت وتائره على نحو متصاعد، ومرت العلاقات بين البلدين بمراحل عدة مهدت لتوجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الرياض اليوم في اول زيارة يقوم بها رئيس روسي في التاريخ الى المملكة. ويولي الكرملين اهمية كبرى لهذه الزيارة، فمن جانب يسعى الى توظيفها لدفع جهود موسكو نحو استعادة نفوذها في منطقة الشرق الاوسط على حساب تراجع مكانة الولاياتالمتحدة بسبب"الاخطاء الاميركية المتتالية"في هذه المنطقة، ومن جانب آخر يحاول الروس الدخول بقوة الى اسواق المنطقة وخصوصا في مجالات الغاز والنفط. ولا يخفي مسؤولون روس ان الانظار تتجه الى قطاع الاستثمارات أملاً في تحقيق اختراق يمكن الشركات الروسية الكبرى من الحصول على مشاريع في المملكة وغيرها من دول الخليج العربي، كما يفتح المجال أمام المستثمرين السعوديين لدخول السوق الروسي. وللعلاقات مع الرياض تاريخ طويل بدأ منذ العام 1926 عندما كانت المملكة أول دولة عربية تقيم علاقات ديبلوماسية مع موسكو الشيوعية، وعلى رغم القطيعة التي شهدتها علاقات البلدين بعد ذلك واستمرت عقوداً، فإن وتائر الاتصالات ما لبثت ان ارتفعت على نحو كبير خلال السنوات القليلة التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، وتم في السابع عشر من أيلول سبتمبر 1990 التوصل الى اتفاق على استئناف تبادل المندوبين الديبلوماسيين على مستوى السفارة. وافتتحت السفارة السوفياتية في الرياض في أيار مايو 1991 وفي كانون الاول ديسمبر من العام نفسه اعترفت السعودية بروسيا كوريثة شرعية للاتحاد السوفياتي. ويسجل الروس للمملكة انها كانت من اوائل الدول التي قدمت مساعدات كبرى لروسيا في عز أزماتها الاقتصادية والمعيشية، إذ عمدت بالتعاون مع دول خليجية اخرى في العام 1994 الى تقديم قرض ميسر لروسيا بلغت قيمته أربعة بلايين دولار كان الروس في امس الحاجة اليها انذاك، وفي تلك الفترة جرت اول زيارة لرئيس الحكومة الروسية فيكتور تشيرنوميردين الى الرياض في إطار جولته في بلدان المنطقة في تشرين الثاني نوفمبر 1994. ووقعت خلال الزيارة الاتفاقية الحكومية العامة حول التعاون التجاري الاقتصادي والاستثماري والعلمي التقني والثقافي والرياضي والشبابي. ومنذ ذلك الحين تتالت زيارات المسؤولين من الطرفين وقام وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل منذ العام 2000 بزيارات عدة الى العاصمة الروسية رفعت من مستوى التنسيق بين البلدين في المجالات الدولية والاقليمية وكذلك على المستوى الثنائي. وقال مستشار الرئيس الروسي اصلان بك اصلاخانوف ل"الحياة"إن زيارات المسؤولين السعوديين والتنسيق المتواصل بين الطرفين كانت لهما أهمية كبرى بالنسبة إلى موسكو، خصوصاً ان المنطقة كانت تمر بتطورات ساخنة في العراق من جهة والأراضي الفلسطينية من جهة ثانية. وشهدت الفترة من العام 2000 الى 2002 تطوراً كبيراً على صعيد التعاون في مختلف المجالات وبينها التعاون التجاري والتكنولوجي وصناعات الفضاء، إذ يكفي القول إن هذه الفترة شهدت تصاعد التبادل التجاري بين البلدين من الصفر تقريباً الى نحو 138 مليون دولار، وكانت الحصة الرئيسية فيه للصادرات الروسية التي بلغت قيمتها 136.3 مليون دولار. وهي في الأساس الحبوب ومنتجات الميتالورجيا الحديدية ومعالجة الأخشاب وصناعة الورق والسليلوز. وبلغت قيمة الواردات من السعودية 2.1 مليون دولار وهي المواد الكيماوية. كما اطلقت المملكة ثلاثة اقمار اصطناعية من القواعد الفضائية الروسية. لكن النقلة المهمة في العلاقات بين المملكة وروسيا حدثت في العام 2003 خلال الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد، فقد اسفرت المحادثات مع الرئيس فلاديمير بوتين عن إطلاق مرحلة من التعاون ادخلت روسيا للمرة الاولى في التاريخ الى اسواق النفط والغاز بقوة، ووقّع الطرفان خلال الزيارة عددا من الوثائق، بينها اتفاقية حول التعاون في مجال النفط والغاز وأخرى حول التعاون في مجال العلوم والتجارة والرياضة. ووقعت كذلك مذكرة تفاهم حول التعاون بين الغرفة التجارية الصناعية الروسية ومجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية. ووقعها من الجانب الروسي رئيس الغرفة التجارية الصناعية يفغيني بريماكوف. ويعلق مسلمو روسيا البالغ تعدادهم نحو عشرين مليون نسمة آمالاً كبرى على تطور العلاقات مع المملكة، ويقول رئيس مجلس الافتاء الروسي الشيخ راوي عين الدين إن كل القضايا المعاصرة التي يعيشها الاتحاد الروسي والعالم بأسره"قريبة إلى المسلمين في روسيا. الذين يعتبرون انفسهم جزءاً لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ونشعر بصلتنا بها وبالوشائج التي تربطنا بكل إخوتنا في الدين في جميع أرجاء العالم، خصوصا المملكة العربية السعودية التي لها مكانتها الخاصة كقبلة لمسلمي العالم بأسره بمن فيهم مسلمو روسيا". ويعتبر رجال الدين الروس ان زيارة بوتين الحالية فضلاً عن اهميتها السياسية والاقتصادية لها"أهمية خاصة بالنسبة إلى مسلمي روسيا لأنهم يعلقون عليها آمالهم بأنها ستساعد على تغيير ذلك الموقف المتحامل على المملكة العربية السعودية الذي نشأ عند قسم من المواطنين الروس، بما في ذلك بسبب المواد المتحيزة ضدها التي درجت وسائل الإعلام على نشرها، خصوصا في تسعينات القرن الماضي". ومعروف ان اوساطاً في روسيا كانت تصر على تحميل المسلمين عموما والدول الخليجية خصوصاً مسؤولية الأحداث الدامية في الشيشان على رغم أن السعودية كانت من اوائل الدول العربية التي اعلنت بشكل صريح ان الشيشان جزء لا يتجزأ من روسيا الاتحادية وان استعدادها للتعاون مع المسلمين الروس يدخل ضمن التعاون مع روسيا عموما وباحترام الدستور الروسي. واللافت ان بوتين حرص في زيارته الحالية على عدم اصطحاب ممثلي الجمهورية الشيشانية معه في مؤشر الى ان هذه القضية"غير مرغوب بطرحها خلال الزيارة". في الوقت نفسه يضم وفد روسيا رؤساء كل الشركات الكبرى في مجالات الغاز والنفط والكهرباء والسكك الحديد وحتى مؤسسة"روس ابورون اكسبورت"المسؤولة عن الصادرات العسكرية الروسية. وتأمل روسيا، بحسب مصادر الكرملين، في توقيع اتفاقات تعاون في مجالات عدة بينها النفط والغاز، كما تأمل في التوصل الى صيغة تفتح مجالات امام الشركات الروسية للتنقيب في المملكة، ويعد قطاع الاستثمار احد الجوانب الأساسية التي يعوّل عليها الروس. وبحسب مصدر تحدث الى"الحياة"فإن موسكو تسعى لأن تكون الاستثمارات متبادلة وتأمل في دخول رجال الاعمال الروس الى قطاعات معينة في المملكة في مقابل زيادة الاستثمارات السعودية في روسيا. لكن البعض يذكرون تجربة سلبية بالنسبة إلى المستثمرين السعوديين في روسيا، فمنذ العام 2000 سعى رجال اعمال سعوديون لتوظيف اموال في مشاريع روسية لكنهم قوبلوا بمشكلات الفساد والبيروقراطية، ويأمل كثيرون في ان تسمح المرحلة المقبلة بتجاوز هذه العقبات. اما على الصعيد التجاري الاقتصادي، فينتظر ان توقع موسكووالرياض خلال الزيارة عشرة اتفاقات لتوسيع التعاون. ولا يعني هذا عدم وجود مسائل يمكن ان تكون خلافية، فموسكو طرحت اخيراً فكرة المساهمة بإنشاء نظام امني جماعي في منطقة الخليج، وقوبلت الفكرة بتحفظ من جانب البعض في المنطقة، وهو ما ظهر خلال زيارة الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى الأخيرة الى موسكو عندما قال إن هذا الاقتراح يحتاج لدراسة تفصيلية و"الوضع في المنطقة الآن معقد جداً ويصعب الحديث عن تقسيم الشرق الاوسط أمنياً". ولا يغيب ان المخاوف تتعلق بالدرجة الاولى بالدور الذي يمكن ان تلعبه ايران في انشاء نظام امني من هذا النوع. أما النقطة الأخرى فتتعلق بفكرة اطلقتها طهران خلال زيارة سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي ايغور ايفانوف الى هناك اخيراً، وتقضي بإنشاء منظمة لمنتجي الغاز على غرار منظمة"اوبك"وعلى رغم ان المسؤولين الروس استبعدوا تطبيق الفكرة لكن الرئيس بوتين لم ينف خلال مؤتمره الصحافي السنوي اخيراً ان"الفكرة جديرة بالدراسة ولا ضرر في زيادة التنسيق بين المنتجين". ويستبعد مسؤولون في شركة"غاز بروم"كبرى شركات الغاز الطبيعي الروسي ان يتم بحث الموضوع خلال زيارة بوتين الى قطر وهي المحطة الثانية في جولته بعد الرياض لكنهم أشاروا الى ان"التنسيق أمر طبيعي ومطلوب". ويبقى المجال الانساني الثقافي حيث تسعى موسكووالرياض لتعزيز الروابط بين البلدين، وسيفتتح في الرياض خلال الزيارة أول معرض صور يُعرِّف السعوديين بروسيا وتقيمه وكالة"نوفوستي"الحكومية التي افتتحت اخيراً مقراً دائماً لها في المملكة السعودية ويقام المعرض في مركز الملك عبدالعزيز تحت عنوان"روسيا - البلد والمواطنون". وتتحدث المعروضات التي تتكون من ما يقارب 100 صورة بالقياس الكبير عن تاريخ العلاقات بين البلدين وحياة شعوب روسيا بمن فيهم المسلمون الروس في يومنا الراهن. وسيتسنى للزوار السعوديين في القسم التاريخي المعد من مواد أرشيف"نوفوستي"ووزارة الخارجية الروسية مشاهدة صور نادرة تعكس العلاقات الروسية - السعودية في العشرينات وبداية الثلاثينات من القرن الماضي. وفي هذا الاطار أكد العالم السعودي ماجد التركي أن بلاده تحتاج إلى الشراكة، وأن ثمة في المملكة اهتماماً كبيراً باللغة الروسية. والأكيد ان زيارة الرئيس الروسي التي تأتي بعد فترة كبيرة تعززت خلالها الاتصالات بين البلدين، تعزز الآمال بفتح مرحلة جديدة من التعاون يرى كثيرون انها تلبي مصالح الجانبين. واعتبر البعض في موسكو انها ليست مجرد صدفة ان لا يضطر أعضاء الوفد الروسي الى تقديم او تأخير عقارب ساعاتهم لدى وصولهم إلى العاصمة السعودية، بل اشارة رمزية مهمة، فالتوقيت في الرياضوموسكو... واحد. * مراسل "الحياة" في موسكو.