في سياق التأريخ للديموقراطية، وتيارها العام وأحوالها اليوم، يبدو لي أن الديموقراطية تخطو خطوات الى أمام ولكنها، في الوقت نفسه، تتصدع، وهذا يحصل للمرة الثانية. فالديموقراطية تنحو عموماً نحو استقلال العالم البشري بنفسه، وانفصاله عن المبنى الديني السابق. وهذه السيرورة تعرَّف، على زعمي، الحداثة. وأما مباني دينامية الحداثة فثلاثة. المبنى الأول سياسي، وهو يتجسد في نشأة الدولة - الأمة التاريخية. وتبلور الدولة منذ القرن السادس عشر الأوروبي سبق تبلور الأمة وسيادة كيانها السياسي على ما حصل في القرن الثامن عشر. ولكن الكيانين متصلان اتصالاً عميقاً، هو الحق القانون. والمجتمعات البشرية الساعية في الاستقلال بنفسها ومصائرها تعمد الى إرساء استقلالها على ركن جديد من المشروعية. والصورة الحقوقية الغالبة على الحداثة توجزها جملة واحدة: مناط الحق هو الأفراد. والمبدأ أو الأصل هذا يعرف من جديد العلائق الاجتماعية كلاً وجميعاً، ابتداءً بعلائق الأهل والأولاد وانتهاء بتلك التي تربط الدول بعضها ببعض. والمبنى الثالث هو تناول مصائر البشر تناولاً تاريخياً. ولا شك في أن المجتمعات الانسانية كلها تاريخية، وهي معرضة لفعل الزمن. ولكن القرن التاسع عشر لم يقتصر على الملاحظة هذه. فذهب الى اثبات ارادة التغيير، وصور انقلاب الزمن في صورة آتٍ يبطل مشروعية الماضي. وأدار ظهره لنظرة ماضوية أرست حجة السلطان على معايير معروفة وثابتة، وأقبل على آتٍ ناط به الفصل في الأعمال والأفعال الجماعية من غير استثناء عمل أو فعل، وخص منها العمل الاقتصادي. فالحداثة لا تنفصل عن ثورة الانتاج والمبادلات. وعلى هذا فتاريخ القرن العشرين ابتكر نظاماً"مختلطاً"من صنف جديد، يمزج الدولة الأمة وحق الأفراد والوعي التاريخي. ونحن نشهد اليوم أزمة النظام"المختلط"هذا، في أوائل سبعينات القرن العشرين، في ذروة"الثلاثين سنة المجيدة"، وهذه كانت معجزة اقتصادية وسياسية معاً، قر في اليقين العام أننا وقعنا على مفتاح الأحاجي كلها. أو هذا ما حسبه حكامنا. ولم يعتم أن ظهر ان الحركة التي رفعتنا الى ما حسبناه الذروة أو سدرة المنتهى، ماضية على اندفاعها، وما يسمى النزعة الفردية أو الفردانية، وهي عبارة تستعمل للدلالة الى أشياء متفرقة، وجه من سيرورة ترسم رسماً جديداً كيان الدولة، وعلاقات السلطة والدالة، والأمر في الشركات والمصانع، وحياة الزوجين... وحمل العالم الاجتماعي على المعيار الحقوقي تتطاول آثاره على العلاقات الإنسانية من غير استثناء. ولكن ينبغي ألا نغفل عن أن هذا الطور يتصل بمغالاة في الوجهة التاريخية مصحوبة، للمفارقة، بالتخلي عن"هم الآتي". فتصور آتٍ متماسك يفترض أساً وركناً. ومثل الأس والركن هذا طوي. والتقاليد كلها تبددت وتلاشت. فنجم عن هذا تصدع مجتمعاتنا، وخبطها من غير سائق أو ناظم. وأزمتنا السياسية مصدرها عسر عمل المباني الثلاثة التي مر تناولها، معاً، على نحو متماسك ومنضبط. والقول إن الحال هذه تلغي دور السياسي النصاب أو المستوى، غير دقيق. فالسياسي، على ما يذهب اليه التراث التاريخي والفكري المعروف، هو مرجع الأمر الذي ينفذ في المجتمعات، وپ"صاحب"هذا الأمر، باسم ما يعلو هذه المجتمعات، وينتصب فوقها. فمرجع الأمر يتمتع بسمو رمزي يسبغه على السلطة. والحال أن السياسي، منذ قرنين، ينزل عن استوائه وانتصابه الساميين. وليس معنى هذا أن السياسي بطل دوره. فهو، على خلاف هذا، البنية التحتية لمجتمعاتنا، وذلك من طريق شكل الدولة - الأمة الذي لا يزال إطار صياغة السياسي، اتحدت دولنا وأممنا الأوروبية أم أقامت على تفرقها وانفصالها. فالسياسي هو علة النشاط العارم الذي يرد به واحدنا على تسارع التاريخ في الحياة اليومية. والمقارنة بين العولمة المعاصرة وبين العولمة الأولى في أوائل القرن العشرين لا تخلو من فائدة. ففي الحالين أصابت الديموقراطية أزمة صاحب تفاقمها، في ثلاثينات القرن الماضي، العولمة الأولى، وتغذى منها. ولكن عولمة القرن العشرين في مطالعه حصلت تحت لواء التوسع الأوروبي وفتوحه الاستعمارية العالمية. وعلى هذا، كانت العولمة الأولى إمبريالية، وبعثت شكلاً سياسياً حسب المعاصرون أنه طوي، هو الإمبراطورية، وصحبه حلم الدولة العالمية الواحدة. وأما عولمتنا، اليوم، فتبدو على نقيض الأولى: فهي وليدة جزر وانكماش أوروبيين، ومطبوعة بطابع غلبة الاقتصاد. فيذهب الظن في الميزان هذا، الى ان الكيانات السياسية فات وقتها ودورها. بيد أن ظاهرة، لم تتوقع، تبرز تدريجاً، فالكيانات السياسية الوطنية تستعيد مكانتها من جديد، وبعضهم ينبه الى"حمل العولمة على الجغرافيا السياسية"قرينة على هذا الظاهرة. والحال ان العولمة تقوي نازع الشعوب الى طلب الأمن والهوية، ويصح هذا، أولاً، في الأميركيين. وليس 11 أيلول سبتمبر إلا تنبه الأميركيين الى انهم جزء لا يتجزأ من العالم، وليسوا على حدةٍ منه! وهذا تعليل ردهم الفظ على إدراكهم الجديد، ولجوئهم الى تعظيم صلاحيات الدولة ? الأمة الأميركية. ولعل توهم بعضهم ان العالم يقبل على اندثار الدولة، واحلال الشركات الكبيرة محلها، هو صدى آمالهم. وهذه الآمال، بدورها، هي صدى تصدع الديموقراطية، وانحلالها الى أحد مبانيها، وهو مبنى الحق والقانون الذي يرفع معياراً وحيداً في عالم يعرفه الاقتصاد ويسوده. ويخلص من هذا الى ابطال السياسي والتاريخ، على ما يزعم بعضهم من غير تبصر ولا تمييز. وأنا أشك كثيراً في توكيل أقوى دولة ? أمة غربية، الولاياتالمتحدة، السلطة الى جنرال الكتريك أو بيل غايتس. فما يمكن العولمة من المضي على مجراها هو البنية التحتية التي أنشأتها الدول وترعاها. فهي ضامن الأمن. ومن غير إطار الدولة تستحيل المبادلات والتوقعات والثقة المتبادلة. وانصرام الدولة الفائتة، على شاكلة المدافع المنصوبة على الحدود، أمر جلي. ولكن اضطلاع الدولة ? الأمة بالتماسك الوطني لم ينصرم ولم يفت. وفي وسع مفوضية بروكسيل الأوروبية اقرار ما شاءت، فإذا لم تتول دولة في أقاصي أوروبا وأطرافها تعهد قرارات بروكسيل هذه وإنفاذها، فلا طائل منها ولا جدوى. والدول هي راعي إنفاذ المعايير التي تترتب عليها القرارات. والأمم هي مرجع المشروعية وسندها. والناس انما يسددون الضرائب اقراراً بمشروعية الأمة السياسية الجامعة، وليس باعثهم قومية محاربة، والمفارقة الأميركية هي دعوة أقوى أمة في العالم الأمم الأخرى الى الكف عن كونها أمماً. ويجد الأميركيون عسراً في استيطان مبدأ التبادل. وعلى خلاف أميركا، تنهض أوروبا وماضيها ماثل أمامها، على الإقرار بكثرة الأمم، وقيام الأمة منها نظير الأخرى وكفءاً لها. مارسيل غوشيه، "لوفيغارو" الفرنسية، 22/11/2007