"كلية لندن للاقتصاد والسياسة هي أهم مكان في العالم يحتضن النقاش حول العولمة"، هذا ما افتتح به جون غري، أستاذ السياسة في جامعة أوكسفورد، مداخلته حول العولمة في لقاء فريد حقاً مساء الأربعاء 11/10/2000 جمع أربعة من ألمع الأسماء المعاصرة في حقل العلاقات والاجتماع الدوليين هم، بالاضافة الى غري، أنتوني غيدنز، رئيس الكلية والمنظر السياسي الاجتماعي وملهم توني بلير في أطروحة "الطريق الثالث"، وفرد هاليدي، أستاذ العلاقات الدولية والمهتم بالشرق الأوسط والعالم الثالث، وماري كالادور استاذة العلاقات الدولية والمنظرة في حقل العلاقات الأوروبية - الأوروبية. والواقع ان جمع هؤلاء في مسرح واحد في قلب الكلية التي انخرطت بكثافة وعمق في المناظرات الاقتصادية في القرن العشرين، بل وجهتها بعض الأحيان، للحديث عن "أهم جدل معاصر في أيامنا هذه"، بحسب غيدنز، هو بحد ذاته حدث لا يفوّت. فوجود أي من المشاركين الكبار، الذين انضبطوا بصرامة مدير النقاش الذي خصص سبع دقائق فقط لكل منهم ليقدم مداخلته الرئيسية، كان كافياً ليستقطب مستمعين من كل مكان. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقرر منظمو النقاش نقل المكان من أحد مدرجات الجامعة الى قاعة مسرح بيكوك الشهير الملاصق لمباني الكلية والواقع في قلب لندن على بعد خطوات من ال"بي بي سي" ولا يبعد سوى دقائق قليلة عن نهر التايمز. أنتوني غيدنز، الذي افتتح النقاش، قال ان الجدل حول العولمة مر بمرحلتين: الأولى أعقبت انتهاء الحرب الباردة واستمرت حتى ما قبل ثلاث أو أربع سنوات وتمحورت حول ما إذا كانت العولمة جديدة أم انها مجرد اعادة انتاج لدورات عالمية قديمة. المنظرون الذين لم يروا في العولمة جديداً جادلوا بأن تعولم العالم وتداخله الحضاري والثقافي والتقني كان سمة ميزت التاريخ البشري، وليست بالتالي محصورة في حقبة نهاية القرن العشرين. في المقابل، فإن الذين رأوا في العولمة تحولاً تاريخياً جديداً ركزوا الانتباه الى عمق واتساع التعولم الراهن، ومركزية التطور الهائل في الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا الأمر الذي لم يكن له نظيراً في أي حقبة تاريخية سابقة. هذه المرحلة من الجدل انتهت ويعلن غيدنز نعيها النهائي: العولمة الراهنة مرحلة جديدة بكل المعايير ونحن نعيش في عصر معولم current global age لا يمكن الخروج منه أو عكس وجهته. وهذا الاعلان ينقله الى توصيف المرحلة الثانية من الجدل حول العولمة، المرحلة الراهنة، وهو جدل تستغرقه هموم التساؤل حول انعكاسات العولمة، أي تجاوز نقاش جدتها أم قدمها، الى ما هو عملي والبحث في ثمراتها وأكلافها. ويعتبر غيدنز أن النقاش حول العولمة في الوقت الراهن هو أهم نقاش دائر في العالم، لأنه يتناول كيفية تشكيل التغيير، أو التأثير في التغيير، الذي يعمل على صوغ حياتنا فوق هذا الكوكب. ويشير الى أن هذا النقاش كسر حدود الاحتكار الأكاديمي في سياتل وواشنطن وحديثاً في براغ. بالنسبة الى غيدنز فإن أهم وجه للعولمة متمثل في ثورة الاتصالات، هي التي، كما كتب مراراً في كتبه ومقالاته حول الموضوع، عملت على تكثيف عنصري الزمان والمكان وخلقت البنية التحتية للتحولات الهائلة في المجالات الأخرى. وبسبب ما تطور من بنى اقتصادية وسياسية واجتماعية معولم، مستفيدة من هذه الاتصالات، فإن ثمة تغييراً هيكلياً عميقاً وواسعاً يحدث على جبهة المؤسسات العالمية التقليدية. والسؤالان اللذان يقلقان الرأي العام في العالم، ويجب أن يقلقاه بحسب غيدنز، في ما خص العولمة هما سؤال عدم المساواة، وسؤال اطلاق يد الشركات الكبرى في العالم والثقة بأن ذلك في مصلحة الجميع. وفي معالجة هذين السؤالين يبرز لنا غيدنز في حلة المنظر الاجتماعي الذي يرصد التغيرات الكبرى وفق التوازن الدقيق لمبدأ التهيكل المستمر أو الstructuration الذي نظّر له في كتاباته حيث تتواصل عمليات الشد والجذب داخل أي نظام عام بين مكوناته الداخلية وشكله الخارجي، مؤدية الى مساومات تطاول الهيكل العام الذي يستجيب للتغير الحادث في بنية وشكل العلاقات الداخلية للمكونات بعضها ببعض وكذا بالنظام نفسه. كما يبرز لنا غيدنز السياسي الوسطي صاحب نظرية الطريق الثالث الذي يبحث دائماً عن التوازن بين سوق نيو ليبرالي منفلت وضرورات الضبط والتوجيه المنحازة للشرط الانساني الأولي. ولذلك، فإن غيدنز عندما يؤكد عدم وجود عامل ارتباط علمي واحصائي بين تعمق عدم المساواة في العالم وزيادة التعولم العالمي مثلاً زيادة معدلات تحرير التجارة العالمية فإنه يؤكد أيضاً على أن العالم سيكون في وضع أفضل مع شركات كبرى متعدية الحدود ومتعددة الجنسيات تتحلى بمسؤولية أكبر تجاه القضايا غير الربحية، وهو لا يقف عند الدعوة للاحسان الاختياري من قبل تلك الشركات الضخمة corporates بل انه يدعو الى وجود ضوابط تأخذ بالاعتبار صيحات الشكوى الجدية ضد هذه الشركات. لكنه حذّر من الانجرار الى شيطنة demonization هذه الشركات واعتبارها مصدراً للشر أو محاربة رأس المال المتجول والزعم بأنه يدمّر العالم النامي. وهي مسألة مهمة جداً، ويرى غيدنز ان جذور عدم المساواة لا تكمن في العولمة بحد ذاتها بل انها متراكمة ولها أسباب أخرى كالفساد، والزيادة الديموغرافية الهائلة والصراع السياسي. الأمر الآخر الذي يلفت غيدنز الانتباه اليه هو دور الدولة ومكانتها إزاء العولمة. وهو هنا لا يرى أي ضرورة لإضعاف الدولة، بل يرى قوتها شرطاً لنجاح العولمة، ولعل هذه المسألة هي الوحيدة التي حظيت بإجماع المحاضرين الأربعة، وهو أمر ملفت حقاً. فهاليدي يؤكد أن العولمة ما كان لها لتترسخ من دون وجود دول قوية خلفها، وان مستقبلها مرهون باتفاقات معولمة بين الدول نفسها وليس من خلف ظهرها، وانه، في ما خص العالم النامي، لن تنجح تلك الحكومات في الاستفادة من ثمار العولمة وتحييد مخاطرها ما لم تكن دولها وقياداتها قوية. وفي خط النقاش هذا نفسه ذهبت ماري كالادور وكذلك جون غري، الذي كان أكثر المتشككين بأطروحة العولمة وكان قد ألف كتاباً ضدها بعنوان "الفجر الكاذب: أوهام العولمة" 1998. مداخلة فرد هاليدي كانت سريعة هي الأخرى، مطاردة بسقف الدقائق السبع، لكنها مكثفة، وواضحة في موقفها: العولمة حقيقة واقعة وجديدة لكن هناك أربعة أسئلة مقلقة بشأنها. الأول هو عدم المساواة، حيث ان العالم يزداد عدم مساواة يوماً إثر يوم، وهذا يتضمن اتهاماً غير مباشر للعولمة بأنها وإن لم تكن وراء نشوء هذه المساواة فإنها على الأقل لا تساعد على ازالتها. فمعدلات الاستثمار الأجنبي التي يشير اليها متفائلو العولمة ما زال معظمها، نسبة 80 في المئة، يدور في أسواق الغرب، أي على ضفتي الأطلسي، فيما تتوجه النسبة الباقية الى حفنة بلدان آسيوية ناهضة، وبالتالي لا يصل بقية العالم شيء منها. وأسوأ قضية تنتجها معضلة عدم المساواة هي تصاعد البطالة، والتي يعتبرها هاليدي أخطر قضية متفجرة راهنة. إذ ينقل عن تقارير وتوقعات منظمة العمل الدولية حاجة العالم خلال الخمسين سنة المقبلة الى تأمين ثلاثين مليون فرصة عمل سنوياً. ولا يرى هاليدي ان العولمة تعالج هذه القضية الخطيرة أو ان الشركات الكبرى تهتم بها، ويعتقد بأنه ما لم تعالج هذه المسألة فإن العولمة لن تخدم المساواة والاستقرار. السؤال الثاني المرتبط بالعولمة هو سؤال الدولة. ويؤكد هاليدي على أن الدولة ما زالت موجودة وستظل موجودة، والرائي لمشهد الانتخابات الاميركية وتطاحن المرشحين المميت يتأكد كم هي مهمة الدولة وكم هو مهم برنامجها السياسي والاقتصادي والسياسي. السؤال الثالث هو العولمة والحرب وحقوق الانسان، وهنا لا يرى هاليدي أن العولمة متساوقة بالضرورة مع حقوق الانسان، خصوصاً انها تتيح للنزعات القومية وللتطرف الاصولي منافذ جديدة. بل انه يذهب الى مدى آخر في التشاؤم حين يقول ان العولمة لا تؤثر في تقليل احتمالية نشوب حروب كبرى بين الدول و"اننا سنكون محظوظين ان لم نشهد قيام حرب نووية وسط آسيا الهند وباكستان أو جنوب شرقي آسيا كوريا الشمالية وجيرانها، او الشرق الأوسط العراق أو ايران كأطراف لها. ويبقى السؤال الرابع والأخير الذي يطرحه هاليدي أمام الحاضرين، وهو الأعمق والأهم في الواقع. متعلق بأثر العولمة على حرية الاختيار. فالتعولم السريع والكثيف في كل المجالات يحاصر الصفة التعددية للكون، وربما يؤدي الى محوها. وإن كان الوقت لم يسعف هاليدي للتوسع في هذه الفكرة فإنه من المناسب القول بأن محاصرة التعددية الحضارية تتعدى تهديد الأشكال الثقافية وأحياناً الأكزوتيكية التي يحوم حولها رومانسيو ما بعد الحداثة لتمس الخيارات الاقتصادية والسياسية الحياتية. فالمطروح عملياً أمام العالم نسخة واحدة من "التقدم" هو الصيغة النيوليبرالية السوقية بتنوعات هامشية الاختلاف، وهذا بحد ذاته حتمية شبه مفروضة على الدول والمجتمعات، وليست خياراً، تستبطن مكوناً استبدادياً معولماً بغض النظر عن نتائج التطبيق: فالأمر المهدد بحق هنا هو حرية الاختيار. ماري كالادور ركزت في مداخلتها على موضوعين يتأثران بالعولمة: الحرب والديموقراطية. وبخلاف هاليدي تبدو كالادور متفائلة بأن العولمة عملت وما زالت تعمل على تقليل احتمالية نشوب حروب كبرى، وهي لا ترى في الأفق أي حرب واسعة وقريبة من الحروب العالمية التي دارت في النصف الأول من القرن العشرين، أو تلك الحروب الطويلة والامبراطورية التي وسمت القرون الماضية. وتقول ان الدول الوحيدة التي في امكانها شن حرب كبرى من طرف واحد في الوقت الراهن هي الولاياتالمتحدة والصين. والأمر المهم الذي ترصده في تطور النظرة الى الحرب هو تلاشي القناعة السابقة بإمكان انجاز أهداف سياسية من وراء القيام بحرب عسكرية. وهي وإن لم تقلل من فرض قيام حروب صغيرة، إثنية، طائفية... الخ، فإنها تشير الى ان ايقاف هذه الحروب تم بطريقة معولمة بعض الشيء كما كانت الحال في البوسنة وكوسوفو. وتشير الى مفهوم "الحرب عن بعد" التي قامت بها الولاياتالمتحدة ضد العراق ويوغوسلافيا، وتربط ذلك بالتطور في مفاهيم القانون الدولي الذي مس جوهر موضوعة التدخل الانساني بحيث أصبحت أكثر قبولاً من ناحية وتعكس توافقات دولية وتعمق في مفاهيم حقوق الانسان على مستوى المعمورة. أما حول الديموقراطية، فكالادور متفائلة بأن العولمة تخدم الدعوة الديموقراطية في العالم بشكل مباشر وانها تساعد على نشرها. وتشير الى تراكم الجهود نحو دمقرطة العالم، وتضمين المكون الديموقراطي لكثير من النداءات والتوجهات السياسية الراهنة، وكذا المشروعات التنموية. وهي تعتبر أن أهم شيء في العولمة هو دعوتها الى الديموقراطية. ومع الأسف انها لم تتوسع في هذا الموضوع الخلافي ولم تبين لنا كيف يمكن أن تصل الى خلاصة قاطعة بهذا الصدد في ضوء معارضة الشارع العالم ثالثي بشكل خاص لمعظم الاجراءات التي تتخذها الحكومات باتجاه فتح اسواقها وعولمة اقتصاداتها، ونزوع عدد كبير من هذه الحكومات الى "فرض" هذه السياسات من دون ديموقراطية، بل ان البعض يرى ان الليبرالية السياسية قد تعاكس الليبرالية الاقتصادية "في بعض المراحل، خصوصاً في المراحل الأولية لتطبيق الانفتاح الاقتصادي". لكن هذا لا ينفي اضطرار الحكومات الى تبني سياسات اعلامية وقضائية أكثر شفافية من قبل في ضوء العولمة الراهنة بهدف جذب الاستثمار الاجنبي، وهي سياسات سينتفع منها بالتأكيد مواطنو البلدان النامية وإن لم تكن قد صيغت طوعاً لتحسين مستوى الحياة السياسية المحلية. أما جون غري فهو يوافق الآخرين على أن العولمة تمثل تحولاً هائلاً في العالم وانها أعمق من أن تحصر بتحرير التجارة وتحطيم الحواجز. ويرى أن أهم جانب في العولمة يكمن في التكنولوجيا التي تشتغل على المستوى الاجتماعي والسياسي. وبسبب هذا الجانب تحديداً فإنه لا يمكن دحر العولمة أو ايقاف تقدمها Deglobalization. لكن مع ذلك، فإن قصور النظام المعولم الراهن، خصوصاً بمؤسساته القائمة حالياً مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، سيؤدي الى نشوء مقاومة معولمة لتيار العولمة ذاته، وسيستخدم وسائل العولمة للتعبير عن معارضته. وبحسب ما يرى غري فإن الحلقة الأقوى في مشروع العولمة الراهن هي الدول الأقوى، أي الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والصين. من هنا فإن غري يشكك في استقلالية وذاتية المؤسسات الكبرى العابرة للحدود، ويعتقد أنها مربوطة بمصدرها الأولي، أي بدول قوية ذات سيادة وذات سياسة تعي ما تفعله هذه الشركات. والأمر الآخر الذي يهتم به غري ويطرحه على الحضور بمزيج من الترحيب والمعارضة الغامضة هو التهجين الثقافي Cultural hybridity. ففي الوقت الذي يثمّن غري ما تتيحه العولمة من امكانات للتواصل بين المجموعات الحضارية المختلفة، ويشير الى امكان استغلال المجموعات الأضعف لتكنولوجيا العولمة للحفاظ على هوياتها وخصائصها المميزة، فإنه يرى احتمالات لابتلاع الثقافة الغربية المسيطرة على العولمة لبقية الثقافات التي تقف في موقف الدفاع. ثم يتطرق غري لأحد الموضوعات الأثيرة لديه وهو اشكالية البيئة والعولمة. وهنا فإنه واضح في تحذيره من أن انفلات الشركات الكبرى العابرة للحدود والتي بوصلتها تعظيم الربح فقط يمثل أكبر تهديد تتعرض له البيئة العالمية حتى الآن. لذلك، فإنه لا يلتقي مع غيدنز فحسب بل يتجاوزه في التأكيد على التفكير بإيجاد ضوابط عولمية تحمي البيئة من خطر العولمة المتفلتة، كما تعدل مساراتها في موضوعات اخرى لا تقل أهمية كردم فجوة عدم المساواة وتقليل احتمالات الحروب، وتعميم الاستفادة من التكنولوجيا. وإذا كان المقام لا يتسع لايجاز الأسئلة والنقاشات التي أعقبت المداخلات الأربع الرئيسية والتي أغنت الجدل وأعطت لتلك الأمسية الفكرية الثرية مذاقاً بالغ التميّز فإنه من المفيد، واللافت، الاشارة الى النقد الشديد الذي وجهه غيدنز وهاليدي الى الاعلام البريطاني. فغيدنز أدان امبراطورات الاعلام وتحكمهم في صوغ الرأي العام بشكل يفرغ الديموقراطية من مضمونها، وكان صريحاً لدرجة أنه كاد يذكر بالاسم بعض الأسماء، التي هي بالأصل غير بريطانية، لكنها تملك محطات تلفزيونية وصحفاً ومجلات بريطانية وتعمل من خلالها على توجيه رأي البريطانيين في قضايا خاصة بمستقبلهم كالعلاقة مع أوروبا وسواها من القضايا. يبقى القول ان الجمهور الحاشد والمميز الذي حضر الأمسية اللندنية المطيرة تلك، خرج الى ليل لندن البارد بعد ساعتين من النقاش الرصين والأسئلة التي تزدحم في الأذهان أكثر بالتأكيد من الأجوبة. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.