Guy. Sorman Le Monde est ma Tribu. العالم قبيلتي. Fayard, Paris. 1999. 508 pages. هذا كتاب في فلسفة الحدود أولاً. فليس ما يوحي للانسان بالحرية كاختراقه الحدود. ولكن ليس ايضاً ما يبث فيه الشعور بالأمان كبقائه ضمن الحدود. والحدود هي طبعاً الحدود الجغرافية، أو بالأحرى الحدود السياسية بين الدول. ولكنها أيضاً الحدود النفسية والأخلاقية. فليس أحب الى الانسان من ان يخرج من عالم نفسه الصغير الى عالم الكون الكبير. وليس ألذّ له من أن يخترق بين الحين والآخر الضوابط الأخلاقية، ولكن ليس ما يرد الطمأنينة الى ضميره كمعاودته الالتزام بها. والحدود أخيراً هي الحدود الثقافية، ولا سيما في عصر العولمة. فاليوم، أكثر من أي وقت سبق، ينعقد الجدل والحوار بين الخصوصية الثقافية والكوننة الحضارية. فانسان العصر يكتشف ان له، خلافاً لانسان العصور الماضية، جذوراً وأجنحة معاً. جذور من طبيعة نباتية تشده الى أرض ثقافته، وأجنحة من ماهية طيرية يحلق بها نحو أجواء الثقافات الأخرى. غي سورنام، مؤلف "العالم قبيلتي"، اختار في هذا الكتاب أن يحترف مهنة ألعابر الدائم للحدود: أي الرحالة. فهو ابن بطوطة أو ماركو بولو جديد. لكن فضاء رحلته ليس عالم القرون الوسطى الآفلة أو الحداثة الطالعة، بل عالم عصر العولمة. أو ما يطيب لبعضهم أن يسميه عصر الأمركة. وبالفعل، ان مؤلف "العالم قبيلتي" يطوف بالقارات الأربع اميركا وأوروبا وآسيا وافريقيا ويتوقف في ستة عشر بلدا كبيرا أو صغيرا من بلدانها ليحاول الاجابة عن هذا السؤال المحدد: أهي عولمة أم أمركة؟ وعنده ان الجواب لا يقبل التباساً: فالعولمة أمركة. لكن خلافاً لكل القائلين بهذه المعادلة فإن الأمركة عنده هي برسم القبول لا الرفض. وهذه المفاجأة هي أول وأكثر ما يصدم قارئه. لكن هذا القارئ عينه لا يملك إلا ان يقرّ له بجرأة نظرية وأخلاقية غير مسبوق اليها، وذلك على وجه التحديد من حيث انه يأخذ على عاتقه الدفاع عن العولمة بوصفها أمركة. ان مؤلف "العالم قبيلتي" لا يجهل أن الرافضين للأمركة، أو للعولمة من حيث هي أمركة، كُثر في العالم، لا سيما في أوساط المثقفين في كل الانتلجنسيات القومية. لكنه يرد عليهم بمفارقة: فهم برفضهم الأمركة انما يدللون على أنهم "أميركيون". ولنوضح: ان التجربة التاريخية الأميركية هي وحدها التي عرفت، دون سائر تجارب الشعوب وثقافات الأمم، مبدأ رفض الذات. فمع ولادة الولاياتالمتحدة الأميركية ولدت نزعة العداء لأميركا. وهذا في داخل الولاياتالمتحدة الأميركية كما في خارجها. فأول من شهر لواء العداء لأميركا هم المعمرون الأميركيون الأوائل الذين من أصل انكليزي. فمطلب الاستقلال الأميركي قد بدا لهم في حينه وكأنه ضرب من الشذوذ عن الطبيعة ومن الخروج على التقاليد الموروثة، أو "بدعة" طبقاً لمصطلحات المعجم العربي الاسلامي. فلسان حالهم كان يقول: كيف يجرؤ الآباء المؤسسون لما سموه ب"الأمة الأميركية" على أن يخلقوا من العدم دولة منقطعة عن جذورها في المملكة البريطانية الأم ولا قوام لها سوى الارادة البشرية ولا قاعدة لها سوى العقد الاجتماعي؟ وهذه النزعة المعادية لأميركا من داخلها لم تطو صفحتها قط. وكل ما هنالك ان حوافزها كانت تتبدل من جيل الى آخر. ففي الستينات من القرن العشرين قدمت الحرب الفيتنامية فرصة جديدة لتظاهرها. ففي أوساط اليسار المتطرف صار من عادة المحتجين ان يحرقوا العلم الأميركي وأن يمتنعوا عن أداء الخدمة العسكرية لهذا العلم. وفي أوساط اليمين تشكلت ميليشيات مسلحة معادية للحكومة ولليبيرالية النخبة المتهمة بالخيانة القومية. وقد قدمت العولمة نفسها فرصة جديدة لتظاهر النزعة المعادية لأميركا من الداخل. صحيح ان مؤلف "العالم قبيلتي" كتب كتابه قبل ان يحدث في سياتل ما حدث في كانون الأول ديسمبر من العام الماضي، لكن تطور الأحداث في هذا الاتجاه ما كان له إلا ان يعزز اطروحته. وهي اطروحة تقول - في ما تقوله - انه يندر ان يبلغ العداء لأميركا لدى مثقفي العالم مبلغه لدى بعض المثقفين الأميركيين أنفسهم من أمثال نورمان ميلر وناحوم شومسكي والى هذين نستطيع ان نضيف إدوارد سعيد الذي يبقى - وان يكن من أصل فلسطيني - مثقفاً اميركياً. أما في العالم المخارج لأميركا فإن الأمة الأميركية اعتبرت منذ يوم قيامها امة "غير طبيعية". ولأنها كانت سباقة الى اقامة الجمهورية، فقد كانت موضع كره الملكيين في سائر انحاء أوروبا. وفي القرن العشرين غدت "مكسر عصا" للمثقفين اليساريين، وفي مقدمتهم الماركسيون. وما ذلك لأنها كانت ولا تزال قلعة كبرى للرأسمالية فحسب، بل ايضاً لأن التجربة التاريخية الأميركية تنهض بذاتها شاهداً على أن التطور الصناعي لا يتأدى الى الثورة الاجتماعية، كما تفترض النظرية الماركسية، بل الى ذوبان مفهوم الطبقة الاجتماعية بالذات أو الى استبدالها بمفهوم "الجماعات الثقافية"، وهو مفهوم غريب عن التحليل الماركسي. ثم ان اميركا، منذ ان أفلت غداة الحرب العالمية الثانية شمس الامبراطوريتين الاستعماريتين الانكليزية والفرنسية، غدت تجسد في انظار المثقفين الأوروبيين والعالمثالثيين الامبريالية الجديدة. وبهذه الصفة غدت موضعاً سهلاً للأبلسة. ولكن هل الشيطان الأميركي مكروه لأنه اميركي، أم لأن كراهيته تقدم ستاراً لكراهية الحداثة نفسها؟ غي سورنام لا يتردد هنا أيضاً في القول ان الصورة الكاريكاتورية التي غالباً ما يقدمها أعداء أميركا عن اميركا هي في باطنها صورة معادية للحداثة نفسها. ففي القرن التاسع عشر كانت الولاياتالمتحدة تمثل نموذجاً مبكراً للديموقراطية وللرأسمالية الصناعية الصاعدة، وكان أعداء اميركا يبطنون العداء في حينه للديموقراطية والرأسمالية معاً. وفي القرن العشرين بشرت الولاياتالمتحدة بفشل الايديولوجيات الشمولية، بطبيعتها الفاشية والسوفياتية، وبمولد المجتمع الجماهيري، فأثارت بذلك سخط المثقفين لأنها دللت على ان العالم يتغير فعلا، ولكن ليس في الاتجاه الذي كانت تتمناه الانتلجنسيا المتمركسة أو "النقدية" أو "الجذرية". والواقع ان اميركا مكروهة من المثقفين الأوروبيين، لا سيما منهم الفرنسيين، لأن تجربتها التاريخية لا تعطي المثقفين الدور الذي أعطته لهم التجربة التاريخية الأوروبية. فالولاياتالمتحدة الأميركية ليست جمهورية أفكار، بل هي ديموقراطية شعبية، مادية، بل بمعنى من المعاني "وثنية". ثم ان صعودها بالذات هو الوجه الآخر لأفول أوروبا. وهذا ما لا يستطيع المثقفون الأوروبيون "التاريخيون" ان يغفروه ابداً لأميركا. ومع ذلك فإن عداءهم لأميركا لم يمنع قط امتداد النفوذ الأميركي في العالم ولم يبطئ من سرعته. وهذا معناه ان استراتيجية الرفض ليست هي الاستراتيجية المناسبة. ان غي سورنام لا ينكر ان رفض الأمركة - أو العولمة أو الكوننة - طموح سياسي واقتصادي وثقافي مشروع. ولكنه يلاحظ ان هدفاً كهذا يمكن ادراكه على وجه أحسن فيما لو تم استبدال موقف العداء العقيم لأميركا بموقف أكثر خصوبة يقوم على معرفة أميركا في واقعها الفعلي. فأميركا، ان كانت تقود سيرورة العولمة، فما ذلك لأنها "امبريالية"، بل لأن العالم الأميركي هو نفسه عالم معولم. فأميركا أمة بلا مركز، ومثلها مثل العولمة فانها عبارة عن دائرة، مركزها ليس في مكان ومحيطها في كل مكان. فأميركا فسيفساء وبوتقة معاً. والثقافة الأميركية هي بحد ذاتها تعدد من الثقافات. هذه التعددية الثقافية هي ما يتيح للصناعة الثقافية الأميركية ان تكون الأكثر تعولماً في العالم. فالفيلم الأميركي، مثلاً، لا ينجح في العالم إلا بعد ان يكون نجح في أميركا نفسها. لماذا؟ لأن استديوهات هوليوود لا تستطيع، حتى وهي تنتج أفلامها برسم الاستهلاك الداخلي، إلا أن تأخذ باعتبارها أن المستهلك الأميركي متعدد اثنياً وثقافياً وذوقياً. وعندما يجذب الفيلم الهوليوودي الجالية الصينية في سياتل، والافرو-اميركية في واشنطن، واليهودية في نيويورك، والكوبية في ميامي، والفرنسية في لويزيانا، فإنه لا بد أن يجذب الجمهور في باريس أو طوكيو أو بومباي. وذلك هو السر في نجاح الصناعة الثقافية الأميركية: فهي لا تستطيع من الأساس ان تكون قومية بالمعنى الفرنسي أو الألماني للكلمة. فهي تخاطب المواطن الأميركي، وبالتالي العالمي، بأبسط لغة وأكثرها بدائية: لغة المواجهة المانوية بين الخير والشر. فعالم الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأميركية هو عالم أخيار وأشرار، في الحب كما في المال كما في السياسة كما في الجريمة. وهذه الميثولوجيا المختزلة الى أبسط أشكالها قابلة للفهم بمختلف لغات العالم وفي جميع البيئات الثقافية. وهذا هو في نظر مؤلف "العالم قبيلتي" الدرس الكبير للأمركة المعولمة أو للعولمة المؤمركة. فالعالم قد غدا، بفضل التكنولوجيا والتصنيع الثقافي، قبيلة واحدة. واميركا هي التي تتقن أكثر من غيرها، بحكم تجربتها التاريخية، اللغة المشتركة للقبيلة البشرية.