بالغاً ما بلغت الرقابة على الحدود الوطنية من كمال، لا ريب في ان مثال دنمارك، أو المانيا، أو أوروبا منيعة الحدود طوي وفات. ولم يعد ممكناً استبعاد هوية غير الأوروبي الغريب، الوطنية والدينية، من النطاق الاوروبي. والذين يحسبون أن في وسعهم التحصن في قوقعتهم، انما يهدهدون أنفسهم بأحلام وتصورات وطنية. وهم يتمثلون في أذهانهم واقعاً لم يعد قائماً ولا موجوداً، على رغم تشبيه وتوهم لا يزالان سائرين في عصر العولمة. فيلغي الاوروبيون انفسهم في دوامة دينامية متنازعة ومتناقضة تخلف عصراً ألغوه منذ قرون، على قول غورغين هابيدماز. وتلغي العلمانية القارية الاوروبية نفسها في حلبة مبادلة معقدة مع الديانات العالمية التي يواجه بعضها بعضاً، ويجاور بعضها بعضاً، ويخالط بعضها بعضاً، وعلى العلمانية ان ترفع عقيرتها بالكلام، وترسم دورها، في هذا الاطار. وعليها إعلان معتقداتها، والإقرار بكثرة المعتقدات، فيه كذلك. فقياساً على العالم، يقتصر وعي الحداثة العلماني بأوروبا على قلة من الافراد، وينبغي تأكيد هذا اليقين وإثباته بازاء فكر الولاياتالمتحدة السياسي - الديني، وبازاء بدايات الحداثة الاسلامية واستهلالاتها. وعلى هذا اليقين النأي بنفسه عن صور الاصولية الدينية. وهذه الصور هي عبارة تعبير عن التيارات الحديثة المناوئة للحداثة. ويقع اوروبيون كثر، اليوم، في فخ نظرة جوهرية وجامدة تحمل الأمة والديانة والهوية على تعريفها الاوروبي، وكأنها ثابتة لا تحول ولا تزول، ولا قيد عليها من مكان وزمان. وفي هذا الضوء، ليس السؤال عن غاية الرحلة الاوروبية التاريخية عرض أزمة، على خلاف ما يقال ويزعم. فهو قرينة على بلوغ القارة معترك المنازعات الثقافية التي يضطرب بها داخل المجتمعات، وتضطرب بها المجتمعات في علاقاتها بعضها ببعض ولا ينبغي حمل هذا على تناول صامويل هينتينتون صدام الحضارات على نحو جوهري ثابت. ومن يتدبر أوروبا على مثال وطني قومي يبعثر في الاوروبيين مخاوف وطنية قومية ويخيرهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما أوروبا وإما الأمم الأوروبية. والقصر على الامرين متعسف، ويحل الخصومة والعداوة بين الاتحاد الاوروبي وبين دوله. والحق أن اوروبا هي الكثرة والتعدد. وعلى هذا الركن، في وسع شعور بالتماسك ان ينشأ، ويجعل الفرق بين اللغات والثقافات والتراثات الدينية غنى وثراء، وليس معوقاً يحول دون الاندماج. ولكن هل في مقدور أوروبا كهذه أن تنفخ الحماسة في المواطنين وتحيي هممهم؟ لا ريب في ان الشك، اليوم، جائز. فحيث يجول النظر يقع على اصلاحات اطارها الدولة ? الامة. وفي مثل هذا الاطار تتعثر الاصلاحات وتختنق. والخروج من المتاهة يقتضي صوغ المشكلات الكثيرة الراهنة من جديد، وتعريفها في اطار أوروبي. ويتناول هذا تناقص السكان، وشيخوخة المجتمع، وإصلاح نظم الضمان الاجتماعي، والهجرة، وتصدير مرافق العمل والوظائف، والحاجة الى حد أدنى ومضمون للأجر، والضريبة على أرباح الشركات والفوائد على الودائع والمضاربات المالية، الى مسائل اخرى. وتفترض الاصلاحات المزمعة تعاوناً بين الدول. والسيادة المشتركة، بهذه الحال، تمنح الأمم سلطة أعظم، وقد تبعث الحماسة في المجتمعات. فيصبح الاتحاد الاوروبي مثالاً لنهج الحكم في عصر العولمة. وسائق هذا النهج هو ان الحل الاوروبي أجدى وأجزى للمواطنين من الاصرار على نهج وطني ومنفرد. وعلى هذا، يضطر دعاة التنصل من أوروبا، ونهجها المشترك، الى تحمل نتائج تنصلهم. فمن غير مساندة أوروبا تقطع المساعدات. وسن هذه القاعدة يحسم الخفة التي يتصف بها أنصار"اللا"في الاستفتاءات الاوروبية. وفي الاثناء، على حملة انتخابية اوروبية أن تتولى التوضيح للمواطنين ما يربحونه اذا هم دخلوا تحت جناح السيادة الاوروبية. فيكسب الدستور الاوروبي مشروعيته الديموقراطية والاوروبية من غير عنت ولا افتعال. ويسهم المواطنون، وبلدانهم معهم، في تطوير المطمح الاوروبي في الحداثة، في اطار دستوري. ويضطلعون بمعالجة منازعات مجتمعهم في حقبته الجديدة، ويخولون الاتحاد الاوروبي التصدي للمنازعات والقرارات السياسية. عن أولريخ بك فيلسوف وباحث اجتماعيات الماني،"لوموند"الفرنسية، 22/4/2006