مضى عام فضائي عربي شهد الكثير من الإنجازات والإخفاقات. نمت فضائيات وازدهرت، واختفت أخرى واندثرت، وذاع صيت البعض منها بين جموع المشاهدين العرب لتؤثر فيهم تبعاً لأجندات دخلت بيت المواطن العربي من أحد بابين: الفن أو السياسة. المتأمل أحوال الفضائيات العربية في العام الذي ينتهي يعجب لما لحق بفضائيات الفيديو كليب، التي كانت في الماضي القريب ملكة متوجة على عرش الأثير العربي، سواء بسبب الانبهار مما تقدمه من إثارة عربية لم تكن من قبل متاحة بهذه المباشرة، أو بسبب الامتعاض مما تقدمه أيضاً باعتبارها"حاملة لواء نشر الفسق وبث الفجور في أرجاء العالم العربي". قيل في عهد قريب مضى أن"الفيديو كليب"ما هو إلا"مؤامرة غربية تهدف إلى تقويض قوة العرب وزرع الإثارة بين صفوفهم لكسر شوكتهم والنيل من عزتهم". وقيل أيضاً إنها لا مؤامرة"ولا يحزنون"، فالشوكة مكسورة منذ زمن بعيد والعزة تم النيل منها قبل بزوغ عهد"الفيديو كليب". وقال فريق ثالث إن"الفيديو كليب"ما هو إلا سلعة جديدة على هذا الجزء من العالم، وأنها شأن كل جديد سيسطع نجمها، ويهدف الجميع إلى الحصول عليها، إما للتمتع أو لصب اللعنات عليها، وسرعان ما سيخفت بريقها بعد أن تعتادها عين المشاهد. رواج يتضاءل في 2007، استمر وجود قنوات"الفيديو كليب"، لكنها لم تعد تلك السلعة الرائجة التي تحرك شهوات النفوس وأقلام المؤيدين، وأصوات المعارضين، بل أصبحت قنوات كغيرها من مئات القنوات التي تحفل بها الأقمار الاصطناعية، لا يتوقف عندها الريموت كونترول إلا بغرض استطلاع الجديد والغريب الذي يتناقله الأصدقاء للتندر والتفكه ليس إلا. وعلى طرف نقيض من التفكه، وقفت القنوات الإخبارية في مكانها المميز قوية لا يزعزعها فيديو كليب مثير، ولا حتى قناة جديدة تتباهى ببث الأفلام الأجنبية ذات المشاهد العارية من دون حذف أو تشويه. وكيف لا تحتفظ بشموخها ومكانتها في كل بيت عربي يقع في منطقة هي الأكثر سخونة والأعلى دموية والأعتى سياسة؟ وعلى غرار"مصائب قوم عند قوم فوائد"، فإن أحداث الشرق الأوسط الملتهبة من مجازر العراق واهتزازات لبنان، إلى دموية فلسطين ومخاوف سورية، إلى حراك مصر ومآسي السودان، إلى أحداث الجزائر وتفجيرات المغرب، هي مصائب العرب التي مازالت تصب في المصلحة المهنية ومن ثم الاقتصادية والإعلانية للفضائيات العربية الإخبارية الكبرى. لقد نجحت هذه القنوات كذلك في جذب البساط من تحت أقدام الفضائيات الاقتصادية بدمجها الاقتصاد والسياسة وأحياناً الرياضة في جعبة واحدة، لا سيما أن القنوات الاقتصادية العربية لم تتمكن بعد من تحقيق مكانة متميزة أو متقدمة بين رجال الأعمال العرب أو حتى المواطنين العاديين المهتمين بالاقتصاد والذين تكفيهم جرعات اقتصادية صغيرة مركزة على هامش النشرات الإخبارية. وإذا كان رجال الأعمال لم ينجحوا في المساهمة في بزوغ نجم القنوات الإخبارية الفضائية العربية خلال 2007، فقد نجحوا في بزوع نجم قنواتهم الخاصة، البعيدة كل البعد من مجال الغوص المتخصص في الجوانب الإخبارية والاقتصادية. ولكنهم مالوا ومال معهم المشاهد العربي إلى القنوات المنوعة التي ظهر بعضها خلال العام 2007 وأكد البعض الآخر حضوره وتميزه في العام ذاته. وإذا كانت أجندة رجال الأعمال تترجم من خلال الخطوط العامة لقنواتهم، من خلال الميل إلى الثقافة الغربية والتحرر من قبضة الحركات الدينية الأصولية المتنامية اجتماعياً، أو من خلال مداهنة الحكومة والخط العام للدولة التي يعيش فيها من آن لآخر اتباعاً لمبدأ"من فاته السبت يجد الأحد"، أو حتى من خلال تقديم باقات متنوعة من البرامج الخفيفة التي يراها مكملة للجرعة المقدمة عبر الشاشات التلفزيونية الرسمية. وفي هذا الصدد، استمرت هذا العام الجهود الرسمية المضنية المبذولة من المحطات الرسمية التي ما زالت متمسكة بتلابيب منظومة تلفزيون الدولة في عدد كبير من الدول العربية. لكن كيفية الإمساك بهذه التلابيب اختلفت من محطة لأخرى، ربما بسبب اختلاف طبيعة الأنظمة التي تتبعها - أو بالأحرى تملكها - وربما بسبب اختلاف تفسير كل منها للطريقة المثلى لنظرية"الإمساك بالعصا من الوسط". فالجهود الرامية إلى مواكبة - أو اللحاق - بعصر السموات المفتوحة والمعلومات غير المحدودة تختلف من فضائية رسمية الى أخرى، لكن هناك ما يشبه الإجماع العربي الشعبي على أن التعامل مع نشرات الأخبار والبرامج السياسية والاقتصادية على المحطات الرسمية، يجب أن يتم بحذر ومن دون التسليم بمحتواه الرامي في غالبية الأحوال إلى تجميل صورة النظام وتقليص حجم المشكلات والقضايا المثيرة للجدال. لكن المقدار الأكبر من الجدال كان من نصيب القنوات الدينية التي تكاثرت هذا العام، فمنها ما يرفع راية الوسطية، ومنها ما يقدم مذاقه الأصولي محاولاً استخدام تقنيات وعقليات القرن الحادي والعشرين. ومنها ظهر وازدهر معتمداً على"الخبطات"الفتوية التي تحدث فرقعات شعبية وإعلامية لفرط غرابتها أو لإغراقها في السلفية. فمثلاً، صدرت"فتاوى فضائية"هذا العام تتعلق بأمور مثل حكم المرأة التي تخلع ملابسها أمام كلب ذكر واختلاء المرأة وسائق سيارة الأجرة وسواهما من الفتاوى والأحاديث التي جذبت جموع المشاهدين وشغلت بالهم وحيزاً كبيراً من الوقت والجهد والتفكير. التخصص العسير وظل تفكير المشاهد العربي في تحويل المؤشر عند إحدى المحطات الفضائية العربية الجديدة الخاصة مثلاً بالبيئة أو الصحة محدوداً وفي أضيق نطاق. فعلى رغم جودة البرامج التي يقدمها عدد من هذه القنوات الوليدة، يبدو أن المشاهد العربي لايزال في حاجة إلى شحذ همته وتحويل دفة اهتمامه - أو توسيعها - لتحوي الاهتمامات البيئية والصحية جنباً إلى جنب مع الاهتمام بفتاوى النساء وأخبار إراقة الدماء. ولعل الفضائيات الدرامية هي وحدها التي ما زالت قادرة على إحداث نوع من التوازن بين اهتمامات المشاهد العربي بتتبع أخبار منطقته المشتعلة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأهوائه وميوله الدينية التي كثيراً ما يعمل بعضهم على تسطيحها وإغراقها في أمور جدلية بعيدة من الدين والدنيا. فالمشاهد العربي معروف بعشقه لمتابعة المسلسلات والأفلام، وهي التي أفردت لنفسها عشرات القنوات المتخصصة لبثها والبرامج المتعلقة بها والتي لا يتوقع أن تنطفئ أنوارها أو تخفت شعبيتها بين الملايين من المشاهدين العرب. وهي في ذلك شأنها شأن القنوات الرياضية، لا سيما تلك التي تبث مباريات كرة القدم ذات الشعبية الضخمة في أرجاء العالم العربي والتي نجحت الفضائيات في جعل مشاهدتها مسألة طبقية بعد ما شفّرتها. عموماً ساهمت التقنيات الحديثة للشبكة العنكبوتية في إثراء المنتج الفضائي العربي خلال 2007، كما أعطت المشاهد العربي نفسه بعداً جديداً خلال العام، إذ أفسح لنفسه مجالاً ليكون ذا صوت وحضور في قنواته التلفزيونية. فكم من برنامج فضائي بث مقاطع مصورة من موقع"يو تيوب"الإلكتروني باعتبارها أدلة على حدوث حالات تعذيب في دول ما، أو لاحتوائها على مشهد حادث أو كارثة طبيعية. وجميعها التقطت من مواطنين عاديين على الهاتف الخليوي. ويشار إلى أن أكثر من فيلم ملتقط بثته شاشات الفضائيات أدى إلى اهتمام المسؤولين بالحدث وتتبعه بعدما خرج ذلك الحدث من حيز مشهد على هاتف مواطن إلى قضية تناقلتها قنوات فضائية وكتبت عنها الصحافة في اليوم التالي. على صعيد آخر، حازت المدونات العربية والأقسام المختلفة على موقع"فايس بوك"حيزاً كبيراً من اهتمام القائمين على عدد من البرامج التلفزيونية سواء الاجتماعية أو الحوارية أو تلك المعنية بالعلوم والتكنولوجيا، ما ساهم في إعلاء شأن الشبكة العنكبوتية الآخذة في التنامي والانتشار وزيادة شعبيتها من بوابة الفضائيات. انطلاقاً من هذا كله، تستقبل الفضائيات العربية عاماً جديداً وهي ما زالت قاصرة عن مخاطبة الغرب بلغة غربية وعقلية عربية متفتحة، علها تساهم في بناء جسر عبر الأثير بين فضاء الغرب وفضاء العرب.