خبر اعتزام مالكي "قناة الجزيرة" الفضائية ضمّها الى باقة الأوائل، ومن ثم "تشفيرها"، أثار، ولا يزال، نقاشات وحوارات بين المثقفين، بل بين قطاعات شعبية واسعة من المواطنين العرب الذين تابعوا بث هذه القناة خلال السنوات القليلة الماضية. ومع ان الموعد الذي تحدثت عنه الصحف لانتقال "الجزيرة" الى وسيلة بثها الجديدة أول تموز / يوليو، قد مرّ من دون ان يحدث ذلك، بما يمكن ان يعنيه من عدم صحة الخبر، أو على الأقل عدم اتفاق أطرافه حتى الآن، إلا ان الجميع بات يتوقع ان يتحقق الوقف بين يوم وآخر، وان تصبح "الجزيرة" مجرد قناة للممنوعات، تنضم الى غيرها من القنوات الفضائية العربية الكثيرة التي تتابع أخبار النجوم، وتعرض أحدث أغاني الفيديو - كليب، بل وتعرض لها كل أسبوع برامج لاختيار أفضل عشرة منها، وهي البرامج التي تحمل مضموناً واحداً، وإن أخذت اسماء مختلفة من محطة الى أخرى. خبر تحوّل "الجزيرة" الى البث "السرّي" يعني غياب الصوت الآخر عن شاشتنا الصغيرة العربية، حتى ونحن نختلف مع هذه القناة في الكثير مما تقدّمه، وحتى في أساليبها الاعلامية. وافتقادنا لهذا الصوت سببه الأهم ضآلة مساحة الحرية التي يتحرّك فيها إعلامنا العربي. ونحن إذ ننتقد قناة "الجزيرة"، لا ننسى ان جزءاً أساسياً من انتقادنا ينطلق من فكرة ان المشكلة هي بالضبط في عدم وجود اكثر من "جزيرة" فضائية، يمكن من خلال بثها جميعاً ان يمتلك المواطن العربي فرصة امتلاك المعرفة والمقارنة، ومعرفة الحقيقة من عكسها. لكن المشكلة أننا لا نمتلك إلا "جزيرة" واحدة، وعلينا ان نتعلّم منها ماهية الاعلام الحر، حتى ونحن نعرف في كثير من الاحيان انها تغشنا في شرح مفهوم الاعلام الحر وفي ممارساته. قناة "الجزيرة"، وسيلة إعلامية تلفزيونية ناجحة تمارس الاعلام الحر، كما تشاء، وكما تتطلب مصالحها، مثلها في ذلك مثل القنوات الاعلامية العالمية الاخرى وهذا حقها، ولكنها عربياً، القناة الفضائية الوحيدة التي تفعل ذلك وهذه مشكلتنا نحن وليست مشكلة "الجزيرة" أو مالكيها. مشكلتنا ان غياب "الجزيرة" يعني لنا بالضرورة، غياب الاختلاف، والعودة من جديد الى الاعلام العربي الحكومي، وشبه الحكومي، وهو ما مثلت "الجزيرة" خلال السنوات الماضية خروجاً عليه وعلى طرائق عمله، ما جذب إليها متابعات كثيفة من اعداد لا تحصى من المواطنين العرب. ان قدراً كبيراً من أسف المواطنين العرب على غياب "الجزيرة" إن حدث ينطلق من هذه النقطة بالذات، إذ سيتأكد الجميع ان الغاضبين والمتضررين من بث "الجزيرة" من الحكام والمسؤولين العرب قد نجحت ضغوطهم في اسكاتها، أي في إلغاء وجود أي ثغرة في جدار الاعلام الرسمي العربي، حيث لا يعود ممكناً ان نسمع الخبر السياسي إلا ضمن صيغه الرسمية، التي وان اختلفت، إلا أنها لن تكون - في معظم الأحيان - في مصلحة المواطن العربي. ناهيك بأن هزيمة "الجزيرة" على هذا النحو تشكل إحباطاً مستقبلياً لأي محاولة جديدة لاطلاق إعلام فضائي خاص يمارس دوراً إخبارياً، ستقتصر فاعلية الفضائيات الخاصة على المنوعات والرياضة، وقراءة الأبراج وما يشابهها من برامج.