تثير التجاذبات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع على الدور والمكانة في الشرق الأوسط، التساؤل بشأن امكان احتفاظ سورية بدورها الإقليمي التقليدي، على ضوء التحولات في العلاقات الدولية، وفي المنطقة العربية. معلوم أن سورية وبسبب موقعها الجغرافي وموقفها السياسي، كانت تبوأت، طوال العقود الثلاثة الماضية، موقعاً إقليمياً متميزاً، يفوق قدراتها العسكرية والاقتصادية، في عديد من الملفات الإقليمية، من لبنان إبان الحرب الأهلية، إلى تثمير علاقاتها مع إيران عربيا إبان حربها مع العراق، مرورا بمداخلاتها في الملف الفلسطيني، وملف الصراع العربي الإسرائيلي. المشكلة بالنسبة لسورية الآن تكمن في تبدل الظروف الدولية والإقليمية، التي كانت أتاحت لها هذا الدور، حتى أن بعض الأوراق تحوّل، أو يكاد، من ذخر استراتيجي لسورية إلى عبء عليها، لا سيما أن هذا الزمن العربي والدولي لم يعد يسمح لدولة بحجم سورية أن يكون لها دور سياسي أو امني خارج حدودها. مصدر المشكلة هنا استمرار اعتبار الدور الإقليمي لسورية وكأنه مجرد معطى ثابت ومستمر مهما تغيرت الأحوال والمعطيات، وعدم تمثل التغيرات الاستراتيجية الحاصلة، وضمنها: 1 - تغير البيئة السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، لصالح هيمنة الولاياتالمتحدة كقطب أوحد على السياسة الدولية. ومعلوم أن السياسة السورية استثمرت، ولأقصى حد، المرحلة السابقة عالم القطبين، في إعلاء شأن دورها الإقليمي، وبديهي أن إسرائيل استفادت من زوال العالم السابق، بحكم تحالفها مع الولاياتالمتحدة الأميركية، على حساب سورية. 2 - تضعضع التضامن العربي منذ احتلال العراق للكويت 1990، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، مع ما عناه من مضاعفات سلبية على دور سورية الإقليمي. 3 - إعلان الحرب الدولية الأميركية خصوصا على الإرهاب بعد تفجيرات أيلول سبتمبر 2001، وتحول السياسة الأميركية، على خلفية ذلك، لطرح مشاريع التدخل والوصاية والتغيير في المنطقة العربية. 4 - تحول النظام العربي من الصراع مع إسرائيل إلى التعايش أو التسوية معها، ما همّش البعد العربي في القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد قيام السلطة الفلسطينية 1993"التي أخذت زمام الأمر بيدها"وبديهي أن هذه التطورات أدت إلى تراجع أولوية الصراع العربي الإسرائيلي من الأجندة العربية الرسمية، وهو الوضع الذي كان يضفي على سورية مكانة مميزة. 5 - الخروج العسكري السوري من لبنان مع التداعيات الناجمة عنه، لجهة الانقسام في الساحة اللبنانية إزاء التعامل مع سورية. 6 - تنامي الدور الإقليمي لإيران على حساب القوى الأخرى وضمنها سورية. 7 - تزايد وزن العوامل الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعلمية في تحديد مكانة ودور الدول في حقل الصراعات والعلاقات الدولية، في مقابل تضاؤل عناصر القوة التقليدية المتمثلة بمساحة الدولة وعدد سكانها وقدرتها العسكرية. 8 - تآكل مجال السيادة الوطنية لصالح الدول الكبرى المهيمنة، على وسائل العولمة ومساراتها، فلم تعد كل دولة في عصر العولمة، ولاسيما في عصر الهيمنة الأحادية الأميركية، قادرة على التفرد بسياساتها الخارجية. واضح من هذا الواقع الصعب والمعقد والمتداخل أن مسألة احتفاظ سورية بدورها الإقليمي التقليدي بات مسألة على غاية في الصعوبة، وأن ثمة كلفة باهظة له، بدليل أن سورية باتت تتعرض لتحديات ومخاطر جمة تستهدف أساسا تقليم دورها الإقليمي، وتشذيب سياستها الخارجية، وتحجيم مكانتها في ملفات المنطقة، وضمنها ملفات فلسطينولبنانوالعراق. لكن لا ينبغي الاستنتاج من ما تقدم أن الدور الإقليمي لسورية انتهى، فالذي انتهى هو الواقع الدولي والإقليمي الذي حدد دور سورية الإقليمي سابقا. فالوضع الفلسطيني بات في عهدة نوع من الوصاية الدولية بقيادة الولاياتالمتحدة. وعملية التسوية، بسلبياتها ومعوقاتها، باتت واقعا دوليا، أما الوضع في لبنان فبات مصدر تهديد وابتزاز لسورية. وكذا الأمر فإن الفوضى السياسية والأمنية والاحترابات المذهبية والطائفية والاثنية في العراق يمكن أن تنعكس سلبا على سورية مستقبلا. أما العلاقات مع إيران فباتت مسألة معقدة بمداخلاتها وتبعاتها الإقليمية والدولية، وبحكم طموحات إيران الإقليمية، وسياساتها العراقية والشرق أوسطية. وعلى الصعيد العربي لم يعد الصراع مع إسرائيل في الأوليات، فثمة تحديات جمة، ضمنها التحدي الاقتصادي، وتفشي النزعات المذهبية والاثنية والطائفية، وتزايد نفوذ الجماعات الأصولية المتطرفة، وابتزاز مشاريع الإصلاح والتدخلات الخارجية. وثمة بروز لثلاث قوى إقليمية هي إسرائيل وإيران وتركيا تبدو معنية بتقرير مستقبل المنطقة في غياب النظام العربي. واضح من التجربة أن أي دور إقليمي أو دولي لدولة ما ليس مجرد معطى ثابت ومطلق ومفتوح، ولا يعني نجاح أية دولة بالاضطلاع بدور ما خارج حدودها بأن هذا النجاح سيعود عليها إيجابا، في مطلق الأحوال، أو أنه سيبقى حليفها في ظل الظروف، ومثال على ذلك ألمانيا في الثلاثينات والأربعينات، وروسيا في العهد السوفياتي، ومصر إبان التدخل في اليمن، من دون أن نستثني العراق. ولعل الاستنتاج المناسب من كل ذلك يكمن في أن سورية باتت في مواجهة وضع يتطلب منها إدخال تغييرات في سياستها الخارجية، وفي مضمون دورها الإقليمي، بعد أن تغيرت المعادلات التي كانت تعمل على أساسها، لا من اجل تلافي المخاطر، التي يمكن أن تنجم عن تجاهل هذه المتغيرات فقط، وإنما من اجل سورية نفسها، ومن اجل أن تتمكن من مواكبة متطلبات التطور وحقائق السياسة وموازين القوى في هذه المرحلة. مثلا، إن حضور سورية مؤتمر أنابوليس لفت انتباه المعنيين والمتابعين، إذ بدا وكأنه خارج السياق السياسي السائد، في صراع القوى على الشرق الأوسط، أو من خارج النمط السياسي الذي رسم للسياسة السورية. معنى ذلك أن بامكان سورية التعويض عن دورها الإقليمي الخارجي من خلال سعيها لاحتلال موقع إقليمي متميز من داخل حدودها، بقوتها الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومعلوم أن سورية استنزفت جزءا كبيرا من إمكانياتها في معمعان الصراع العربي الإسرائيلي، بكل تجلياته، وقد أدى ذلك إلى حصول تشوهات وإعاقات في نموها الاقتصادي. بديهي أن الأمر لا يعني تخلي دمشق عن حقوقها، ولا عن مصالحها أو مكانتها، ولكنه يعني انه بدلاً من التعويل على الأوراق الإقليمية، يمكن لسورية أن تعزز أوضاعها أو ورقتها الداخلية، عبر التوجه نحو تعزيز المشاركة الشعبية والتعددية والديموقراطية، وإطلاق طاقات المجتمع، وتنمية الاقتصاد وتطوير التعليم، وتنمية مناخ الاستثمار، وتحويل سورية إلى قوة اقتصادية في المنطقة. ولا شك أن سورية القوية داخلياً، والمتصالحة مع ذاتها ومع حقائق العصر، يمكن أن تكون أكثر نفوذاً في مجالها الإقليمي، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الخارجية، بمعنى أن اية دولة وضمنها سورية، تستطيع أن تمارس سياسة إقليمية، أو خارجية، من داخل حدودها، بقوة النموذج والتأثير. * كاتب فلسطيني مقيم في سورية