لا تزال رواية "مرتفعات وذرينغ" التي كتبتها ايميلي برونتي في منتصف القرن التاسع عشر بين الروايات الأكثر قراءة لدى البريطانيين الذين استفتوا حول روايات الحب المفضلة. وهذه الرواية نافست أعمالاً أخرى بينها رواية جين اوستن "كبرياء وتحامل" وروايات دافني دو موريير، دي اتش لورنس، وشارلوت برونتي نفسها الشقيقة الكبرى لإميلي. لكن الأكثر غرابة من ذلك ان قصة الحب التي جمعت بين كاثرين ابنة الطبقة البورجوازية وهيثكليف الشريد، تفوقت على روايات الحب التي كتبت منذ عقود قليلة الأقرب الى روح عصرنا الحالي. أثارت النتيجة ردود أفعال في الأوساط الإعلامية من متسائل عن سر تربع الروايات الكلاسيكية على قلوب البريطانيين، وما الذي تحمله من أسرار بحيث انها لا تزال مع مسرحية شكسبير"روميو وجولييت"الأدق تعبيراً عن جوارحهم، ولماذا لا يزال البريطانيون يتماهون مع أبطالها ومواقفهم في لحظات الحب؟ ولكن التساؤل اللافت حقاً بين تلك التعليقات هو: الى أي مدى يمكن اعتبار"مرتفعات ويذرينغ"، رواية حب فعلاً بينما هي تمور بالأسئلة الاجتماعية والأخلاقية؟ قصة الحب بين كاثرين وهيثكليف هي قلب رواية مرتفعات ويذرينغ بالطبع، ولكن العلاقة تحمل مستويات أخرى اكثر تعقيداً وجدلاً. ان مصطلح"قصة حب"شكل اكثر تبسيطاً من ان يحتوي السرد المركب في اي رواية، فما بالنا بهذا العمل الأبعد من مجرد غرام وانتقام وجاذبية. انه دراسة روائية، إن صح التعبير، حول الصراع الطبقي وحول هاجس الانتقام الذي عشش في روح هيثكليف الفقير اليتيم الذي وجد نفسه طفلاً على هامش عائلة ميسورة مفتوناً بحب ابنتهم الجميلة الى حين تسربها من بين يديه نحو ابن عائلة مساوية لعائلتها اجتماعياً. لن ينسى العاشق نظرات الاحتقار التي كان يوجهها شقيق كاثرين له ومن ثم زوجها. وستبقى الرغبة بالثأر تحوم في حياته ولن يتخلص من تلك المشاعر السلبية إلا بالموت. انها رواية عن الثراء والسلطة والهوس بعاطفة ما، وعن الموت. بهذا المعنى هي"رواية مرعبة"على حد وصف أحد الاكاديميين التخصصين بفترة الادب الفيكتوري الذي يعود الى القرن التاسع عشر."وصف رواية مرتفعات ويذرينغ بالرومانسية كمن يصف مسرحية هاملت بپ"السيرة العائلية". ويذكرنا ذلك الأكاديمي بأن قدر هذه الرواية على ما يبدو ان تكون محكومة بسوء الفهم، فمنذ اليوم الأول لصدورها عام 1847 حاول كل جيل أن يعيد تعريف النص وان يضعه في خانة أسهل على التلقي، وهو غير ما تسمح به الرؤية الأصلية للكاتبة ايميلي برونتي. الكاتبة ايميلي برونتي، بحسب السير الذاتية التي كتبت عنها والأوراق والوثائق التي تعود إليها، كانت امرأة قوية قياساً بوقتها وعرف عنها حسن التصرف بأموالها وأموال العائلة في سوق الأسهم، كذلك كانت تتابع الصفحات الاقتصادية بعناية في الصحف البريطانية لتقرأ عن ثورة وسائل النقل من خلال القطارات البخارية في ذلك الحين، وأوضاع السوق في شكل عام. هذا الى جانب انغماسها بأعمال مثل الخبيز والعزف في شكل ممتاز على البيانو أعمالاً لبيتهوفن وهاندل وغيرهما من عباقرة الموسيقى. وكانت قادرة على القراءة بالألمانية والفرنسية واعتادت ان ترتاد الأماسي الموسيقية والمعارض التشكيلية. انها إنسانة عملية تعرف مجتمعها بعمق، وكان مضطرباً يعج وقتها بالمتغيرات، ففي عام 1942 عانت منطقة هاوارث من البطالة والفوضى التي شكلت تهديداً للمجتمع، حتى ان ايميلي تدربت على استخدام البندقية واحتفظت بواحدة في البيت خوفاً من أي متطفل. عكست روح تلك المرحلة بتفاصيلها في نصها المتميز الذي لا يزال من أهم الروايات البريطانية، فهو يظهر في كل استفتاء حول أهم الروايات البريطانية في كل وقت. ويعتبر الباحث مارتن كتل ان"مرتفعات ويذرينغ"من اكثر الأعمال البريطانية خيالاً مبدعاً في الثقافة الإنكليزية، انه نسيج متداخل بين السرد والشعر يصل الى مستوى أعمال ميلتون وبليك وكونراد، ويجب ألا يختصر بخانة الرومانسية وان يقلل من شأن كاتبه بهذا المفهوم الضيق. لكن الغريب ان أول من بادر الى تحوير الرواية هي شقيقتها شارلوت برونتي صاحبة رواية"جين اير"، وذلك عندما تدخلت بالحوار المكتوب على لسان الخادم جوزيف بلهجة منطقة يوركشر، الإقليم الجغرافي الذي عاشت فيه عائلة برونتي في بلدة هاوارث. حورت شارلوت واختصرت من الحوار عند إعادة طبع الرواية عام 1850، أي بعد عام على رحيل المؤلفة!. ومنذ ذلك الحين والرواية مفتوحة لمشارط الدارسين والنقاد على مختلف اتجاهاتهم كل يجرها الى صوبه وتفسيراته، من النقد الماركسي، الى النقد النسوي والنقد الديني، جميعهم حاولوا تبسيط الرواية، وأحياناً إضافة عناصر تجميلية لها من خارجها. وأياً كانت التفسيرات الأدبية والنقدية فان غالبيتها تجعل من نص"مرتفعات ويذرينغ"أقل شأناً من حقيقته. "مرتفعات ويذرينغ"خارج توصيف الرواية الرومانسية التي تعج بالحب والغيرة والإثارة، ويبدو ان الألفي بريطاني الذين شاركوا في استطلاع الرأي اعتمدوا في حكمهم، في الغالب، على مشاهدتهم للنسخ السينمائية خصوصاً النسخة الأولى عام 1939 التي قام ببطولتها لورنس اوليفييه بدور هيثكليف الإنسان البري المتوحش العواطف والانفعالات. في هذه النسخة التي أخرجها ويليام وايلر حذف اكثر من نصف الرواية واستبعدت التفسيرات الخارجة عن البعد الرومانسي. وكثر من غالبية العرب الذين يعرفون تلك الرواية استمدوا معرفتهم أيضاً من الثيمات المحورة والمحولة الى عمل سينمائي وتلفزيوني، خصوصاً فترة دراما الأبيض والأسود. وطالما إننا نتحدث عن السينما فإن الدارسين لأعمال برونتي يشنون حملة على هوليوود وعلى الجهات التي تستثمر عائلة برونتي كصناعة، لأنها جميعاً ساهمت في التقليل من شأن الكاتبة وروايتها، ففي متحف العائلة في يوركشر رسم لإيميلي على الهدايا التذكارية يظهرها بشعرها المتطاير مع كلبها وهي تجلس على صخور الشاطئ. صورة رومانسية حقاً لامرأة في منتهى العملية والواقعية. ويقال إن فيلماً جديداً ستنتجه هوليوود من بطولة جوني ديب وانجيلينا جولي. "مرتفعات ويذرينغ غير قابلة للتحول الى فيلم"، يقول أحد الباحثين، لأن هذه الرواية موجودة فقط كقطعة أدبية منظومة بعناية، تسرد بأسلوب الحوار والفلاش باك. انها ليست رواية سردية كما هي رواية جين اوستن التي تصلح دوماً لأن تتحول الى دراما سينمائية وتلفزيونية. يقول رئيس قناة"يو كي تي في دراما"التي أجرت الاستفتاء لحسابها كي تتأكد من ميول مشاهديها قبل ان تحول الروايات الى دراما: أثبتت نتائج الاستفتاء ان الرومانسية لا تزال مطلوبة وان 37 في المئة من النساء المستفتات تبحثن بين دفتي الكتاب عن رجل وسيم يحلق بها عالياً مثل مستر دارسي بطل"كبرياء وتحامل"ويفضلنه على مواصفات الرجل المعاصر. وان 40 في المئة منهن يقرأن روايات الحب كي يشعرن بحالة نفسية افضل و15 في المئة يقرأنها لأسباب نوستالجية كونهن قرأنها في فترة الصبا، بينما اعترفت 10 في المئة ان قراءة الروايات الرومانسية هو تعويض عن غياب الرومانسية في حياتهن. لكن من جهة أخرى فإن 16 في المئة اعترفن أنهن لم يقرأن في حياتهن روايات رومانسية. بالنسبة الى القائمة فقد جاءت بحسب الترتيب الآتي:"مرتفعات ويذرينغ"1847 لإيميلي برونتي،"كبرياء وتحامل"1813 لجين اوستن،"روميو وجولييت"1597 لويليام شكسبير،"جين اير"1847 لشارلوت برونتي،"ذهب مع الريح"1936 لمارغريت ميتشيل،"المريض الإنكليزي"1992 لمايكل اونداتجي،"ريبيكا"1938 لدافني دو موريير."دكتور جيفاغو"1957 لبوريس باسترناك،"عشيق السيدة تشاترلي"1928 لدي اتش لورنس."بعيداً عن الزحمة الجنونية"1876 لتوماس هاردي.