منذ حوالى سنة، وخلال زيارة لي الى جنوب أفريقيا، دخلت في نقاش حام مع مسؤول سوداني رفيع المستوى حول التطورات غير المنطقية التي يشهدها إقليم دارفور، الذي بات الفرع الثاني الذي يوشك على الانفصال عن الشجرة السودانية. ومن دون أن يقصد الرجل، استشرفت من كلامه سبباً رئيساً للأزمة الطاحنة التي تكاد تعصف بوحدة السودان، والذي تمثل في أن السودان - مثله مثل الصومال - ابتلته الجغرافيا السياسية بأن يجمع بين أخطر السلبيات التي تميز التكوين البنيوي لدول قارة أفريقيا، وأسوأ ما يميز التكوين البنيوي العربي. وإذا كان الحوار مع المسؤول السوداني أوضح أن ذلك البلد العربي - الأفريقي ورث عن كل من أفريقيا والعالم العربي أسوأ ما في جيناتهما الوراثية، فإن حواراً آخر دار بيني وبين مبعوث الرئيس الأميركي لدارفور عند بدايات الأزمة في العام 2005، ومن بعده حوار مع مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية جينداي فريزر، أكدا لدي الانطباع بأن السودان استقطب أسوأ مخططات الغرب التي تستهدف ثرواته بصفة عامة، وفي حالة دارفور، ثروات هذا الإقليم النفطية الهائلة. وجاء إعلان الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي في افتتاح مؤتمر السلام في دارفور، والذي استضافته مدينة سرت، عن فشل المفاوضات في اليوم الأول لها بسبب غياب عدد من التنظيمات المعارضة المسلحة في الإقليم، وإعلان العقيد القذافي الفشل يستحضر في الأذهان تلك المقاربة بين أسوأ ما في كل من التكوينين البنيويين الأفريقي والعربي، واللذين جمعهما السودان في جسد واحد، يوشك على التداعي. ومن المناسب في هذا المقام محاولة تحليل بعض من"الجينات الوراثية"التي ورثها السودان عن انتمائه الأفريقي والعربي المزدوج، والتي تحرك أزماته، وتحديداً في هذا المقام أزمة دارفور، ومن بين هذه الجينات: أولاً: التعدد القبلي ليس التعدد القبلي بالمفهوم المادي هو الخلل البنيوي الجيني في السودان، وإنما الروح القبلية التي تدفع المجتمع الى الاستقطاب على أساس القبيلة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الخلل البنيوي الجيني ورثه السودان في المقام الأول من انتمائه العربي، وذلك قبل أن يأتي انتماؤه الأفريقي في المقام الثاني. فعلى مدار العقدين الماضيين، نجح العديد من دول أفريقيا جنوب الصحراء في التخلص ليس من القبيلة، وإنما من روحها التي كانت القوة المحركة وراء المذابح وحركات التمرد والانقلابات. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، في مقدمها، جنوب أفريقيا، ودول أخرى منتمية إلى تجمع تنمية دول الجنوب السادك. وتنقسم القبائل في دارفور إلى قبائل مستقرة في الريف، وعلى رأسها قبائل: الفور والمساليت والزغاوة والداغو والتنجر والتامة، إضافة إلى القبائل الرحل مثل: أبالة وزيلات ومحاميد ومهريه وبني حسين والرزيقات والمعالية. عاش الرحل والمجموعات المستقرة وشبه الرعوية والمزارعون في دارفور في انسجام تام، وهناك علاقات مصاهرة بينهم. واعتادت مجموعات الرحل التنقل في فترات الجفاف إلى مناطق المزارعين بعد جني الثمار، وهذه العملية يتم تنظيمها من خلال اتفاقات محلية بين القبائل، وإن لم يخلُ الأمر - في أوقات الجفاف والتصحر- من بعض المناوشات المتكررة بين الرحل والمزارعين في نطاق ضيق، سرعان ما كان يجرى حلها. ثانياً: غياب ثقافة الديموقراطية إذا كنا رجحنا أن الخلل الجيني البنيوي القبلي ورثه السودان من انتمائه العربي في المقام الأول، قبل انتمائه الأفريقي، فإن الترجيح منشأ تلك التحولات الديموقراطية الجذرية التي شهدتها القارة السمراء على مدار العقدين الماضيين، بما سمح لنا برؤية رؤساء سابقين لأكثر من 10 دول أفريقية، في حين ظل العالم العربي يطمح إلى رؤية رئيس عربي سابق عدا لبنان، بخلاف تلك السابقة التي سجلتها اخيراً موريتانيا. الشاهد، أن غياب ثقافة الديموقراطية المصحوب بظهور الثروات النفطية الهائلة في إقليم دارفور، يدفع في اتجاهين من جانب قوتين"أولاهما تمرد السكان المحليين على انفراد السلطة المركزية بالسلطة والثروة، وثانيتهما تدخل قوى خارجية لدعم هذا التمرد واستخدامه كغطاء للتدخل والحصول على النصيب الأكبر من هذه الثروة. وعلى رغم ذلك، فالسلطة المركزية في السودان لا تزال مصرة على تغييب"ثقافة الديموقراطية"بما يطيل أمد الأزمة، ولا يساعد في حلها. ولعل قراءة متأنية في التاريخ الحديث للسودان وإقليم دارفور تؤكد لنا ما سبق، فعلى رغم أن عناصر الاحتكاك القبلي ذات الأبعاد العرقية كانت قائمة على مدار القرن الماضي داخل الإقليم، إلا أنها كانت تُحَل في وقت قياسي من خلال مؤتمرات قبلية بسيطة. وكان أعنف هذه النزاعات في العام 1989 بين قبائل الفور ذات الأصل الأفريقي والقبائل ذات الأصول العربية، والذي استدعى تدخل زعيم ثورة الإنقاذ عمر البشير بعد أشهر قليلة من توليه السلطة، وتمت المصالحة في مدينة الفاشر. ثم اندلع صراع قبلي آخر بين العرب والمساليت في غرب دارفور بين عامي 1998-2001 ما أدى إلى لجوء أعداد كبيرة من المساليت إلى تشاد، ثم وقع اتفاق سلام محلي مع سلطان المساليت عاد بموجبه بعض اللاجئين، فيما آثر البعض الآخر البقاء في تشاد. ومع تحول احتياطي النفط في الإقليم من احتياطي محتمل في باطن الأرض الى مؤكد، وبعدما تفجرت أعمدة الذهب الأسود عالياً في سماء الإقليم على أيدي الصينيين الذين حصلت بلادهم على غالبية امتيازات التنقيب والاستخراج في غياب الغرب الذي قاطع السودان لمصلحة حق تقرير المصير للجنوب، بدأت حركات المعارضة في الإقليم تنتقل من مربع المعارضة إلى مربع التمرد طلبا للإبقاء على السلطة والثروة في الإقليم، في حين بدأ الغرب في إذكاء هذا التمرد طلبا لنصيب في الكعكة! ثالثا: الفشل في استغلال وحدة الدين: أحد أهم الجينات الوراثية الإيجابية التي حملها جسد الإقليم نقلا عن انتمائه العربي تمثل في الإسلام، الذي تدين به الغالبية الساحقة من السكان"عرباً وأفارقة، إلا أن السلطة المركزية في الخرطوم فشلت في استغلال هذا الجين الوراثي الإيجابي بما يوحدها مع الإقليم. في الوقت ذاته، فشلت ثقافة المجتمع السوداني في أن تتسع لاحتضان المجتمع الدارفوري، وهو ما انعكس في مقولات شائعة في وسط السودان مثل:"... البجي من الغرب ما بسر القلب...". وعودة إلى التاريخ الحديث للسودان يمكن أن تعيننا على معرفة تلك الحساسيات التي فشلت وحدة الدين في القضاء عليها، فأحد أسباب التوتر في علاقة بعض نخب وسط السودان مع سكان دارفور تمثل في كون الإقليم كان السند الرئيس لكل من الثورة والدولة المهدية التي حكمت في أواخر القرن التاسع عشر. ووصلت مساندة الإقليم للدولة المهدية إلى ذروتها عندما ورث عبد الله التعايشي المنتمي إلى دارفور الخلافة المهدية، وهو ما أدى إلى دخول العديد من أبناء دارفور وكردفان إلى سدة السلطة على حساب أبناء الوسط. من هنا، بدأ تاريخياً ظهور مصطلحات على شاكلة"أولاد البحر"وهم سودانيو الوسط، وپ"أولاد الغرب"وهم أبناء دارفور وكردفان. وعلى رغم ذلك، فإن الظروف أتاحت فرصة ثمينة لنظام الرئيس عمر البشير، عندما دعم الإسلاميون من أبناء دارفور - وكانوا هم المسيطرون على الإقليم في ذلك الوقت - انقلاب 30 حزيران يونيو 1989 الذي اتخذ الإسلام غطاء لشرعيته. إلا أنه ومرة أخرى، تخسر السلطة المركزية في الخرطوم هذه الفرصة، بتغييبها أي مشروع تنموي لدارفور، إضافة إلى أسلوب القبضة الحديد الذي استخدمته في التعامل مع الإقليم ومشكلاته, ما أدى إلى انفضاض أغلب أبناء الإقليم عن نظام الحكم في الخرطوم، وبدأت في الظهور تيارات جديدة أكثر ثورية. رابعاً:"فيروس"الجنوب! بناء على النقطة السابقة، بدأ المجتمع الدارفوري في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي في إفراز نخب سياسية جديدة تتطلع لنموذج الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الراحل جون قرنق التي اعتمدت السلاح بدلاً من السياسة لتحقيق طموحات الجنوب بالانفصال عن الشمال. وتزعم هذا التيار الدارفوري الموالي للحركة الانفصالية في الجنوب المهندس داود يحيى بولاد, لكن حركته هزمت وأعدم في تلك الفترة. إلا أن إعدامه لم ينه الظاهرة، وإنما أججها بظهور تنظيمات عدة تحولت عن العمل السياسي إلى العمل المسلح. وجاء هذا التحول الخطير على النقيض من التجربة الجنوبية التي بدأت مسلحة قبل أن تتحول إلى العمل السياسي. الانقلاب في منهج التنظيمات الدارفورية تحقق بإيحاء من القيادات الجنوبية التي عملت في تلك الفترة على فتح جبهة عسكرية في الغرب تستطيع أن تواجه بها الضغط العسكري الحكومي عليها في الجنوب. وهكذا، ظهرت تنظيمات مثل حركة تحرير السودان بقيادة أمينها العام مني أركوي ميناوي, وحركة العدالة والمساواة بقيادة خليل إبراهيم، وتعاملت معهما الخرطوم في البداية باستخفاف - كعادة الأنظمة العربية - وأصرت على أن الأمر مجرد عصابات قطاع طرق، قبل أن تبدأ في توزيع اتهامات معروفة بأن حركة تحرير السودان تدعمها الحركة الشعبية لتحرير السودان وإريتريا، وبأن حركة العدالة والمساواة هي من بنات أفكار حسن الترابي، والاتهامات لم تسهم في الحل وإنما في المزيد من التهور. وفي هذا المقام، تجدر الإشارة إلى المفارقة الكامنة في صعود حركة التمرد في كل من الجنوب وفي دارفور"ففي حين أن المجموعة الجنوبية التي شكلت نواة الحركة الشعبية تخرجت في المدرسة العسكرية السودانية الرسمية، فإن المجموعة الدارفورية خرجت من عباءة الأحزاب السياسية في وسط السودان، إلا أنهما قررتا اللجوء إلى السلاح لأن وسائط العمل السياسي في السودان لا تسمح بنصيب من السلطة لأبناء المنطقتين المهمشتين. وكثير من غير المتابعين لتفاصيل تطور حركات التمرد في دارفور، لم يستوعبوا ما صرح به في نهاية شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي النائب الأول للرئيس السوداني زعيم حركة التحرر الشعبية الجنوبية سيلفا كير ، عندما قال قبيل بدء مؤتمر سرت للسلام إنه هو الذي طلب من الفصائل الدارفورية مقاطعة المؤتمر. وحاول سيلفا كير تبرير طلبه هذا، بأنه كان يقصد حصول هذه الحركات على فسحة من الوقت لتوحيد أجنداتها إزاء اتفاق أبوجا الذي ترفضه بعض هذه الفصائل! وبالطبع، فإن ما جاء على لسان نائب الرئيس سيلفا كير يعد دليلاً على مدى تأثر حركات دارفور بالنموذج الجنوبي في إدارة الصراع، ويوضح أيضاً كيفية استخدام سيلفا كير التمرد في دارفور في صراعه مع السلطة المركزية! خامساً:"الأميبا"السياسية! وسط هذه البيئة السياسية التي تتميز بقدر هائل من السيولة، فإن من المنطقي توقع انقسامات فكرية وجسدية داخل التنظيمات السياسية والعسكرية التي تقود حركة المعارضة، خصوصاً مع وجود استقطاب من جانب قوى داخلية وإقليمية ودولية هائلة. هذه الانقسامات المتسارعة، التي تشبه الانقسام الأحادي المتكرر للمخلوقات المجهرية المعروفة باسم الأميبا، تؤدي بدورها إلى صعوبة التوصل إلى حل. ونموذج هذه الانقسامات فصيل التمرد الأكبر في دارفور،"حركة تحرير السودان"، الذي تعرض لانقسامات داخلية نتج عنها فصيل عبد الواحد محمد نور، وخمسة فصائل أخرى. والدليل على أن هذه الانقسامات الحركية المبنية على خلافات فكرية، تعوق التوصل إلى السلام، ان فصيل عبد الواحد نور هو الذي تمرد على تنظيمه الأصلي بالامتناع عن التوقيع على اتفاق أبوجا، وهو الذي دفع القذافي إلى إعلان فشل مؤتمر سرت في أول أيام عقده. تصريحات الوسطاء الدوليين والإقليميين والليبيين المحذرة لأطراف النزاع - وعلى رأسها التنظيمات المقاطعة لمؤتمر سرت - من أن قطار السلام انطلق وعلى المتخلفين أن يتحملوا مسؤولية تخلفهم، لا يجب أن تقرأ على أنها تحول غربي عن دعم حركات التمرد، وإنما يجب أن تفهم على أنها تشمل الحكومة المركزية في الخرطوم. فالمتخلفون هنا لا يقصد بهم من لم يركبوا القطار فقط، وإنما يقصد أيضاً من ركبوه من دون ان يلتزموا قواعده، وأولى هذه القواعد دفع الثمن، سياسياً أو مادياً، وفي حالة السودان نرجح الاثنين معاً...! * كاتب مصري