لو لم يكن أنسي الحاج يكره فكرة "العمر" لكان ينبغي الاحتفال ببلوغه السبعين. ولكنْ مَن يصدّق أن شاعر "لن" بلغ هذا الشأو من العمر؟ حتى هو نفسه لا يصدّق. حتى قراؤه والأجيال المتعاقبة التي تجد في شعره جذوة الثورة المتجددة. شاعر"الليل"يعيش خارج الزمن أو خارج سطوة الزمن. من يقرأ ما يكتب الآن من"خواتم"يدرك أن الأعوام التي عبرت سهواً زادته ألقاً ونزقاً وقوة. جعل أنسي الحاج من صفحته في إحدى الصحف اللبنانية"جزيرة"تشبه جزيرة حيّ بن يقظان وراح يكتب بحرية، كعادته دوماً، مخترقاً الحواجز الكثيرة التي باتت تزداد في عصرنا العربي، غير مبالٍ بالرقابة أياً تكن. بل لعله من القلة القليلة التي لا تمارس الرقابة الذاتية أو المضمرة، الرقابة على النفس وعلى التعبير وعلى الأفكار المنبثقة كالشهب. لم يعش شاعر ضد قدره مثلما يعيش أنسي الحاج. الشاعر الذي استهل تجربته صارخاً بصوت مجروح ومتمرّد"لن"ما زال يصرخ"لن". كأن حرف النصب هذا الذي يحمل بُعداً مستقبلياً يختصر قدر هذا الشاعر الذي يحيا في المستقبل، بل الذي لا يمكنه إلا أن يحيا في المستقبل. شاعر لا ينام إلا بعد أن ينيم الليل ويطمئن الى أن كوابيسه عبرت. شاعر لا يعرف معنى النهار بصخبه ورتابته وسأمه. يبدأ النوم على حافة الصباح، إن أمكن النوم. لكنّ ليل أنسي الحاج الذي استحال"نهاراً"لا يشبه ليل نوفاليس أو القديس يوحنا، ليله هو ليل الحياة نفسها، ليل العزلة والمواجهة. شاعر غير متصالح مع قدره ومع العالم كيف يمكنه أن يكون غير نفسه؟ كيف يمكنه ألاّ يكون صادقاً وحقيقياً وغير مهادن؟ يعيش أنسي الحاج في عزلة الأنقياء، منكفئاً الى هواجسه وأحلامه والى ما يكتب من قصائد وشذرات، شديدة التوهج. العالم يبدأ هنا على هذه العتبة، وعلى هذه العتبة ينتهي. العلاقات مكسورة والحياة الخارجية المزيفة مطعونة في الصميم. يرفض أنسي الحاج الانخراط في"اللعبة"الإعلامية السافرة ويبتعد كل الابتعاد عن"الأمجاد"العابرة. يرفض الجوائز وحفلات التكريم ونادراً ما يحيي أمسية شعرية، لا سيما الآن، في مرحلة الانحطاط التي يجتازها العالم العربي. لا يستطيع أنسي الحاج أن يناور وأن يتنازل عن مبادئه بغية الحصول على الفرص السانحة التي تُغدق على الشعراء، وبعضهم طليعيون وتقدميون... الشعر في نظره بمثابة المقدّس الذي لا يمكن تدنيسه. إنه الحيّز الوحيد الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته من الرياح السموم التي تهب من هنا وهناك، وإلا باطل الأباطيل كل شيء باطل. لا يبالي أنسي الحاج إلا بصنيعه الشعري وحده. كل شيء آخر يأتي لاحقاً. يرفض أن يُكرّس مجاناً وأن يصبح ذا أتباع ومريدين. همه كل همه هذا الصراع مع الورقة البيضاء. هنا يحقق ذاته، هنا تتحقق الذات المحفوفة بالألم والحلم والتمرد. مجد العالم يبقى للعالم، والشاعر لا يدوم له سوى تلك القصائد التي تضيء عتمة الحياة. هل من شاعر يتهرّب من النقاد مثلما يتهرب أنسي الحاج؟ بل هل من شاعر يتحاشى لقاء باحثين جامعيين يكتبون أطروحة عنه فيحيلهم الى أصدقائه العارفين بشعره؟ لعل انسحاب أنسي الحاج هو خير أمثولة يمكن استخلاصها. انسحاب يقابله حضور آخر، حضور بالكلمة التي هي السلاح الأمضى والظل الأشد رقة. انسحاب هو الحضور نفسه ولكن في المعترك الشعري، وفي ساحة القصيدة المتجددة أبداً والحديثة التي تطل على مشارف المستقبل، وتنير فضاءه بالحدس. أنسي الحاج شاعر دوماً في الأمام، حيثما ينظر الشعراء الجدد يلفوه أمامهم. يقرأونه ويكتشفون أنهم لم يقرأوه، يكتشفون أن شاعراً مثله، غامضاً ونقياً، يحتاج الى أن يُقرأ باستمرار. وقراءته تزداد متعة كلما تكررت. كأن في عالمه زوايا لم تكتشف وتحتاج الى مَن يسبرها. يكتب أنسي الحاج الآن ما يحلو له أن يكتب. في السبعين، لكنّ العصب هو عصب ابن العشرين الذي كتب"لن"من غير أن يعلم أنه كان يصنع مرحلة جديدة لم يألفها الشعر العربي من قبل. نزق ومقدام، يغامر بالحياة مثلما غامر بالشعر، غير آبه، خسر أم ربح. كأن الحياة لعبة موت أو حياة، لعبة تجرّ نفسها بنفسها، إما الى هاوية غير مرتقبة وإما الى رابية تشرق فوقها شمس العالم. لكن أنسي الحاج المتمرّس في وحشة الهاوية هو ابن تلك الرابية. كيف يمكن شاعراً مزاجياً، حاداً في مزاجيته، شاعراً عنيفاً، رقيقاً في عنفه، شاعراً على مشارف الوحشة الشديدة العذوبة... كيف يمكن شاعراً في صمته الصارخ ونقائه أن يساوم في سوق النخاسة الشعرية وأن يتنازل عن طقوسه الجميلة من أجل الجاه الباطل؟ الشاعر النبيل لا يهادن، ينظر الى الأمام، لا يجذبه ذهب العالم ولا بريق الشهرة. الشاعر النبيل يعيش بفقره الذي نسيه منذ أول العمر. الشاعر النبيل يتحدى قدره، القدر القاسي ويحيا في الوجهة الأخرى وفي يقينه أن الشعر هو الخلاص، الشعر محفوفاً بالحب والحلم والبراءة. أنسي الحاج ما أجمل عزلتك! ما أحوجنا اليوم الى مثل هذه العزلة العظيمة التي لا يستحقها إلا الشعراء الكبار.