قراءة ناديا تويني بالعربية لا تقلّ متعة عن قراءتها بالفرنسية التي كتبت بها. فالقصائد المعرّبة لا تبدو منقولة من اللغة الأصل الى لغة غريبة خصوصاً عندما يكون المترجمون شعراء في حجم أدونيس وأنسي الحاج وفي نباهة هنري فريد صعب. القصائد هنا تنتقل من اللغة الأصل الى اللغة الأصل، على خلاف فعل الترجمة نفسه. والشاعرة التي كتبت بالفرنسية لم تهجر العربية لحظة بل هي كما تقول كتبت العربية بالفرنسية. وربما كتبت باللغتين معاً، منصهرتين في لغة واحدة هي لغة ناديا تويني التي لا تشبه إلا نفسها. فالعربية هي لغة الذاكرة والفرنسية لغة الوجدان، العربية لغة الجماعة والفرنسية لغة الفرد الذي لم ينفصل لحظة عن جماعته. والجماعة هنا يجب أن تفهم في كونها أرضاً ووطناً وتراثاً وأساطير وطوائف وأقليّات... ويجب - خصوصاً - ألا تؤخذ في معناها الضيق. فالشاعرة التي أصرّت مرة على القول إنها "غريبة عن الدنيا" إنما كانت تحسّ ان روحها أبعد من أن تُحدّ وأن ألمها أعمق من أن يُدرك. ولعلها "التبعة" الميتافيزيقية التي جعلت الشاعرة ابنة الوجود وما وراءه ولا سيما عندما شرعت تواجه الموت. قد يكون أكثر ما يميز لغة ناديا تويني أنها ابنة اللغتين الفرنسية والعربية، أي أنها اللغة الوسطى التي ترتبط بجذورها ارتباطاً وجودياً و"كينونياً" وتزهر في سماء اللغة الأخرى لا لغة الآخر. فهي التي اختارت الفرنسية لغة تعبير جعلتها لغة الذات وحررتها من ربقة "الآخر" الذي كان في إحدى الحقبات منتدباً ومسيطراً وربما "محتلاً". لغة ناديا تويني مشرعة على عبقرية اللغة الفرنسية التي فجّرها شعراء كبار مثل بودلير ورامبو ومالارميه ورينه شار وسواهم. وإذا كان هؤلاء هم "الآخر" فما أروعه من "آخر". لا يشعر قارئ ناديا تويني بأي غربة في القصائد المعرّبة، عن القصائد الأصل، ليس فقط لأن الترجمة شعرية بامتياز وأمينة على الأصل، بل لأن الشاعرة تحضر في النص المترجم حضورها في النص الأم. وهذه ميزة تتمتع بها ناديا تويني كثيراً. كأن شعرها يفرض نفسه على الترجمة والمترجم ويحلّ على فعل النقل أو التعريب واسماً اياه بميسمه لغة وجواء. بل انها روح الشاعرة، الشرقية والغربية، الموحّدة والمسلمة والمسيحية في آن واحد، المتصوفة والغنائية تهيمن على اللغة في لحظة انتقالها من الفرنسية الى العربية. وليس من المغالاة القول ان قصائد ناديا تويني ذات روح مثلما هي ذات جسد، الجسد هو الذي يتبدل أما الروح فهي هي. هكذا تعود الشاعرة في الترجمة الى الجسد الأصل، الى لغة هذا الجسد وتجلياته. غير ان قراءة ناديا تويني بالعربية هي أشبه بإعادة القراءة ولكن بلغة ثانية. يشعر القارئ أيضاً أن النص الذي كتب سابقاً تعاد كتابته أكثر مما تتم ترجمته. تصبح متعة القراءة مزدوجة تماماً كالقصائد التي تصهر اللغتين والذاكرتين. انها قصائد مكتوبة وليست مترجمة فقط. وكلما رقّت الترجمة تجلّى الأصل وتبلور. ولذلك لا يستطيع أن يترجم الشعر سوى الشعراء القادرين على سبر أسرار الصنيع الشعري وعلى بلورته في لغة هي ذاكرة النص الأول. هكذا نجحت ترجمة أدونيس وترجمة أنسي الحاج وهنري فريد صعب واستطاعت أن تكون النص البديل الذي طالما خامر مخيلة ناديا تويني وسكن سريرتها بصفته نصاً أصلاً أيضاً. لم يستطع أدونيس أن "يؤدنس" كما عبّر مرة بالفرنسية قصائد ناديا تويني وأن يفرض لغته الأدونيسية على هذه القصائد، مثلما فعل سابقاً بقصائد سان جون بيرس وسواه. وكذلك حال أنسي الحاج الذي ترجم الكثير من عيون الشعر الفرنسي. شعر ناديا تويني معاند ولكن برقة، بسيط ولكن بعذوبة فائقة وروحه هي أقوى من أن تغلبها روح أخرى. هنا تنقلب "الخيانة" التي وسُمت الترجمة بها، أمانة وابداعاً وتصبح صفة ايجابية. على أن قوة هؤلاء الشعراء تظل بيّنة وإن ذابت في القصائد المترجمة، حتى ليمكن التمييز بسهولة بين ترجمة أدونيس وترجمة أنسي الحاج وترجمة هنري فريد صعب. فالترجمة هي في الختام اقتراح وهنا هي اقتراح في صميم روح اللغة، لغة ناديا تويني النادرة والفريدة. والقصائد القليلة التي كتبتها الشاعرة بالعربية مباشرة، وهي تنشر للمرة الأولى، لا تبدو غريبة عن الترجمات نفسها بل هي تغدو كأنها طالعة من بين القصائد المترجمة. وعلى رغم قلّتها تظل هذه القصائد شاهدة على "عربية" ناديا تويني، الكامنة في قرارة فرنسيتها. عاشت ناديا تويني 48 سنة وكتبت الشعر بدءاً من العام 1963. هذا العام لن يكون ذكرى ولادتها الشعرية فحسب بل ذكرى بداية مرضها الذي أقضّ حياتها طوال عشرين سنة، فهي رحلت عن هذه الأرض في العام 1983. انها مصادفة وجودية حتماً، أن يكون تاريخ بدايتها الشعر، تاريخ بداية موتها البطيء والطويل. إنها درامية التجربة الشعرية التي كانت الوجه الآخر لمأساة الحياة. وحينذاك أيضاً فقدت الشاعرة ابنتها الطفلة وقد أصيبت بالمرض الذي أصيبت به هي وعانت "هاجسه" خلال السنوات العشرين التي تبقت لها. وهكذا عاشت ناديا تويني مرضها شعرياً عملاً بمقولة هلدرلن: "يعيش الإنسان شعرياً على هذه الأرض"، فالشعر كان حياتها وربما خشبة الانقاذ التي رميت اليها مَن ترى رماها؟ لتحيا الموت وتحييه شعراً ولتحيا الشعر وتحيا به وكأنه اكسير الحياة الأخرى. ألم تقل الشاعرة: "لا شيء جميلاً حقاً إلا لأن كل شيء سيموت/ بعد هنيهة"؟ كان على ناديا تويني أن تواجه الموت بالشعر وأن تصنع به ومنه حياة أخرى توازي حياتها المأسوية. والشعر كان أصلاً وليد لحظة هاجس الموت مثلما كان الموت رفيق اللحظة التي ولد فيها الشعر. إنها لمفارقة قدرية رهيبة. أخذ منها القدر حبور الحياة وأعطاها في اللحظة نفسها فرح الشعر. لكن فرح الشعر هذا لم يستطع أن يتخلّص من طابعه المأسوي. تحدّت ناديا تويني الموت وسبقته واستطاعت خلال السنوات التي تبقت لها أن تنجز مشروعها الشعري وأن تكتب أجمل القصائد وأشدها لوعة ونضارة. فهي استمدت من هاوية الموت جذوة الجمال ومن سمائه سرقت نار التجربة. ولا غرابة أن يطغى هاجس الموت والمرض والدم على الكثير من قصائدها: "الموت عربة تتجه نحو الشرق" تقول. وتقول أيضاً: "أنتمي الى أرضي المجنونة/ ألدها بموتي فيشتعل وجهها بألف نظرة". وشاء القدر أيضاً أن يزيد من عذابها فوقعت حرب لبنان بخرابها ومآسيها فانسلخت الشاعرة عن أرضها، أرض الأحلام والذكريات وأضحت بلا وطن ولا أرض: "آه، هذا البغض الذي يخصب الأرض/ مثل دم المرأة الساخن". وكان عليها أيضاً أن تواجه الحرب الخارجية - مثلما واجهت "حربها الداخلية" - بالشعر. فكتبت ديوانين عن لبنان الحرب، لكن شعرها هذا لم يكن "وطنياً" في المفهوم السطحي والساذج الذي عناه "الشعر الوطني". فهي كتبت ما يشبه "المراثي" الانسانية والوجودية مستوحية صوراً بهية لوطن كان ذات يوم أرض البخور والعنبر. ولم تمعن الشاعرة في "مديح" الوطن وتبجيله تبجيلاً خرافياً على طريقة بعض الشعراء بل كانت ذاتية جداً و"واقعية" ولكن انطلاقاً من إيمان صلب بهذه الأرض التي شاهدتها تحترق وتنهدم على نفسها. وكانت هزيمة حزيران يونيو 1967 أثرت سابقاً فيها فخصّتها بنص شعري - درامي عنوانه "حزيران والكافرات" لكن المفاجئ ان النص غدا خلواً من أي بعد سياسي مباشر، فالشاعرة ارتقت بالواقعة السياسية الى مرتبة وجدانية - وجودية راقية. وقد يكون كتاب "حالم الأرض" أشد الكتب وشاية بجوهر تجربتها الفريدة وذات العمق "الكينوني"، ففيه تتآخى السوريالية الملطّفة مع النفحة الغنائية العميقة والعالية في وقت واحد، ويمسي الشعر الوجه الآخر، الجمالي والابداعي للفلسفة والموقف الفلسفي الحيّ والمتحول: "قولي لي، هل الأرض سؤال أم جواب؟". وتقول أيضاً: "الأرض/ كي تبتكر لذاتها انفعالاً/ ترسم إنساناً". وكانت قالت في ديوان آخر: "الانسان نافذة مفتوحة على السماء". وهذه صورة بديعة على رغم بساطتها الظاهرة وهي خير دليل على "إنسانية" شعر ناديا تويني، هذه "الانسانية" التي تشبه جزيرة الخلاص في عالم يتساوى فيه النهار والليل، الذاكرة والمخيلة. وعندما تخاطب الشاعرة الليل قائلة "أيها الليل يا فكرتي العظيمة"، وعندما تتحدث كذلك عن "ليلة أسطع من حريق غابة" فهي تدمج بين "ليل" الشاعر الألماني نوفاليس الذي يمثل الحقيقة البشرية و"ليل" القديس والشاعر الإسباني يوحنا الصليب المفعم ب"الضوء". دخلت ناديا تويني أخيراً المكتبة العربية من باب واسع ومن خلال أقلام شعراء كبار عرّبوا شعرها بأمانة وجمالية تليقان بهذه الشاعرة التي سبقت نفسها الى الحياة. ودخولها المكتبة العربية يعني أكثر ما يعني عودتها الى اللغة - الأم التي لم تفارقها أبداً.