لعلّ الصفة التي أطلقها الشيخ عبدالله العلايلي على أبي العلاء المعرّي وجعلها عنواناً لكتابه الشهير "المعرّيّ ذلك المجهول" خير مدخل الى قراءة "ضرير" المعرّة قراءة معاصرة تعيده الى المعترك الشعريّ وتذكي نار السجال الذي قام حوله. فالمعرّي لا يزال "ذلك المجهول" حقاً، على رغم ما كتب عنه وقيل فيه واتهمه بعضهم جزافاً بما اتُهم به الحلاج من زندقة وشكّ وكفر، ودافع عنه بعضهم دفاعاً مستميتاً. و"غموض المعرّي جعله شاعراً على قدر كبير من الفرادة سواء في المعاني التي تطرّق اليها أم في صنيعه اللغوي النادر. وارتقى به غموضه الى منزلة لم يبلغها أيّ من شعراء عصره على اختلاف نزعاتهم. وصفة "المجهول" التي تبنّاها العلايلي كان قالها طه حسين من قبل، معتبراً شيخ المعرّة "شاعراً مجهولاً من التاريخ والمؤرّخين" وضحية سوء فهم بل "شخصاً مبهماً" لا يعرف العامّة سوى اسمه تحيط به الشكوك والأوهام. وهذا الأبهام هو الذي دفع العلايلي الى قراءته على ضوء "الطريقة" التي كان المعرّي اشتقها بنفسه، بغية فهمه والوصول اليه و"النفوذ الى أغوار فلسفته". فالقارئ هو أمام فكر "مستغلق أشدّ استغلاق، مبهم أشدّ إبهام"، إذ "لا يقين" هنا كما يعبّر المعرّي قائلاً في أحد أبياته و"إنما أقصى اجتهادي أنْ أظنّ وأحدسا". ولعلّ الظنّ والحدس هذين أضفيا على المعرّي هالة من الأسرار اكتنفت شعره وحياته معاً. فالشعر إذ يشك في العالم ويظنّ به إنّما يزيده قتامة فيما كان من المقدّر له أن يضيئه ويكشف أسراره. وكيف يضيء الشعر عالماً هو "مثل السراب" وحياة تخبّط في الظلمة الشاملة؟ أمّا الشاعر الذي طالما سُمّي "رهين المحبسين" فكان كما يعبّر هو نفسه رهين ثلاثة سجون: فقدان ناظريه، عزلته أو لزوم بيته وكون نفسه في "الجسد الخبيث". هكذا يضحي المعرّي "أشد الشعراء قتامة" كما يقول سامي علي في تقديمه قصائد الشاعر الضرير التي نقلها الى الفرنسية في كتابٍ حمل عنواناً "معرّياً" بامتياز: "أغاني الليلة القصوى". الليلة القصوى كما يقول المعرّي هي "ثلاث ليالٍ". والمعرّي الذي زجّ به القدر في سجن الظلمة الخارجية وزجّ بنفسه في سجن العزلة أو "الزهد" اكتشف داخل ذينك السجنين سجنه الروحيّ أو الفلسفيّ. ولعلّ تداخل تلك السجون بعضها ببعض جعل عالمه الشعريّ أقرب الى المتاهة التي يحتاج من يدخلها الى سراج ديوجين. على أن المعرّي نفسه ليس بريئاً من صفة الأبهام التي وسمته فهو بحسب طه حسين اتخذ بعض "الحيل" ليخفي على الناس آراءه، وفكرهُ كما يعبّر العلايلي "شدّ حول ذاته هالات كثيفة من التعمية في قصد بل في لذّة أيضاً". واعترف المعرّي بنزعته إلى "أصناف المجاز" وفق ما قال وإلى "الأغراض" التي يصعب الاهتداء اليها. وخاطب بني زمنه في أحد أبياته سائلاً إيّاهم: "... هل تعلمون سرائراً علمت ولكنّي بها غير بائح". قد لا يعني قارئ المعري اليوم إن كان شاعر المعرّة باطنياً أم زنديقاً أم كان في عداد القرامطة وسواهم فهو أكبر من أن يُحصر في نزعة عصبية أو انتماء سياسيّ. أبو العلاء شاعر من طراز نادر لم تعرف العربية خلال عصورها الغابرة شاعراً يماثله حتى وان عرفت شعراء يفوقونه في بيانهم وبديعهم. وندرة أبي العلاء تكمن في صهره الشعر والفلسفة في بوتقة واحدة فكان شاعراً ولكن في مزاج فيلسوف وسريرة من يتأمل بهدوء. وشعره لم يكن إلا وليد ذلك اللقاء بين اللحظة الفكرية واللحظة الشعرية، بين التأمل والحدس، بين الوعي والألم. واستطاع فعلاً أن يرقى بما سمّي شعر الحكمة والزهد والتأمل الى مرتبة غير مألوفة سابقاً. وظلّ شعره نسيجاً فريداً لم يوازه فيه أحد حتى الشعراء الذين كانوا فلاسفة مثل ابن سينا في قصيدته في "النفس". فهو كان شاعراً في كلّ ما يعني الشعر من استبطان للغة وإغراق في الاختبار الوجوديّ وإمعان في الصنيع البياني والبديعي. لكنّه لم يكن فيلسوفاً على غرار الفلاسفة من أهل المنطق والطبيعة والرياضيات... ولم يعمد الى تلبس شخص الفيلسوف حتى وان حفل شعره ببعض "الموضوعات" الفلسفية والمقولات التي يتفوّه بها الفلاسفة عادة سعياً منهم الى الإصلاح والتغيير. لكنّه كان يملك رؤية فلسفية يمكن سبر بعض معالمها مثلما فعل طه حسين وعبدالله العلايلي، وقد صنّف طه حسين تلك المعالم ضمن سياق "موضوعاتي". وإن بدا المعرّي ظاهراً على حال من التناقض في القول ونفي القول أو في قول الشيء وضدّه أو في إثبات الشيء وإنكاره فهو كان على بيّنة من هذا التناقض وعلى إدراك بما يؤول اليه من نتائج. وقد أشار في بيت شهير له الى أن النفس يعتريها "إنكار ومعرفة" وأن "كلّ معنى له نفي وإثبات". ولعلّ حال التناقض التي يعترف بها هي من أهم السمات التي وسمته فتميّز بها عن سائر الشعراء وسائر الفلاسفة. فهو شاعر الشك واللايقين، شاعر الظلمة واليأس، شاعر العزلة والانتظار، شاعر القنوط والحيرة، شاعر الاضطراب والتردّد. ولكم حار في قضية الوجود البشري وقضية النفس البشرية فكان روحانياً حيناً و"مادياً" حيناً، يؤمن بخالقه ولكن يدين بالجبرية في الحين عينه، يأنف من الحياة تعب كلّها الحياة، ويقبل عليها خائفاً من الموت الذي لم يكن يتوانى عن اعتباره خلاصاً تارة وعناء طوراً حياة عناء وموت عناء. كان المعرّي باختصار كما يقول طه حسين: "شاعراً حائراً وفيلسوفاً بائساً"، ولكن في المعنى العميق للحيرة والمعنى الوجودي للبؤس. وهو يصف نفسه خير وصف حين يقول: "إنّما أنا حيّ كالميت أو ميت كالحيّ". عاش اضطراباً عميقاً طوال حياته لم ينتهِ إلا حين وافته المنية: "يلاقي الفتى عيشه بالضلال ويبقى عليه الى أن يموت". و"الضلال" هنا ليس سوى الحيرة والاضطراب اللذين اكتنفاه أمام ظلمة العالم وظلام القلب والروح. وأدرك المعرّي ما تناقض في ذاته وانصدع إذ قال: "حالي حال اليائس الراجي".أو "إني ونفسي أبداً في جذاب". ويصف القلب ب"الماء" و"الأهواء طافية" عليه تخبط فيه وتوقعه في الاضطراب. ولا ريب أنّ "فلسفته" تأثرت بما اعتراه من أحوال نفسية هو الغارق في سجونه الثلاثة. وعقله ليس بجوهر مستقل في ذاته ومنفصل عن حياته المضطربة بل هو مرتبط بها وخاضع لتموّجاتها، أما روحه التي تتألم وتفلسف ألمها مانحة إياه بعداً ميتافيزيقياً. فالألم اختبار والاختبار معرفة وان بالحدس. ومهما قال أبو العلاء بما يسمّيه "إمامة العقل" فهو لم يزعم أنّ العقل طريق الى اليقين المطلق. ويسمّي العلايلي ذلك "العقل" الذي أخد به شاعر المعرّة ب"العقل الفطريّ الخالص". ولعلّ أبا العلاء الذي اعتبر "العقل أولى بأكرام وتصديق" كان ينجرف في سيل عاطفته التي كانت تستيقظ في طويته فيسلّم بما كان أنكره في مقام آخر. وليس شعره الابتهالي كما يقول جبّور عبدالنور إلا "صلوات عابد متنسك يصعّدها في محابسه كما يطلقها الصوفي في زواياه". وقد يكون أبو العلاء الشاعر اليتيم في التراث العربي غاص على نفسه و"وجدها" وعرضها في كلّ ما اعتراها من أهواء وآلام وشكوك وعواطف وهي جميعها سليلة الشاعر الأعمى الذي لم يستطع أن يهادن العالم والحياة وربّما الموت فيما هو يقبع في "توحّده" وظلمته، وكم أصاب العلايلي في وصفه ب"الشاعر المتوحّد" الذي "يأنس بكل ما يضطرب في نفسه ويأنس طويلاً بتحليله وأن كان بُطلاً أو نكراً". وصفة "التوحّد" التي وجد فيها العلايلي ما يشبه بعضاً من حلّ يلائم لغز المعرّي استنبطها من بضعة أبيات يقول صدر أحدها "وأرى التوحّد في حياتك نعمة...". الدجنة اللفظية والظلام الذي حاصر أبا العلاء ورماه في عزلته شمل شعره ولغته أيضاً فإذا عالمه الشعري محفوف بالغموض والأبهام وإذا صنيعه ولا سيّما في كتابه الفريد "اللزوميات"، على قدْر كبير من الصعوبة والأناة والمراس الصلب الذي يفترض إلماماً عميقاً بأسرار اللغة والبيان والبديع. ويسمّي العلايلي قتامة لغته ب"الدجنة اللفظية" التي لا تفضي اليها المعجمية اللغوية الحرفية. فالمعرّي لم يكن شاعراً فحسب ولا شاعراً ذا مزاج فلسفي فقط بل كان لغويّاً كبيراً أيضاً. وتدل على تضلّعه في العربية مقالاته النحوية الصرف التي جادل بها بعض النحاة وتدل عليه أيضاً قدرته الخارقة على تطويع اللغة وتدجينها وإشباعها بما لم تعرفه من قبل ولم تعهده. وقد "استحيا" المعرّي اللغة و"تلبسها" كما يقول العلايلي لتخترق دلالاتها المعجمية وتفيض بالرموز التي أسبغها هو عليها ولتشير "لا إلى ما اجتمع فيها من وحي العصور بل الى ما اجتمع فيها من وحيه ولفتات روحه". واستطاع المعرّي كما لم يستطع أحد أن يملك لغة هي لغته ومفاهيم هي مفاهيمه ونحواً هو نحوه وبلاغة هي بلاغته. وقراءته لا تتوفر لأي قارئ عابر أو طارئ فهي تتطلّب ما يسميه العلايلي "توسّعاً لغوياً" يتيح استيعاب النواحي الخفية في صنعته الراقية وتتطلب كذلك تعمّقاً في خصائص المعاني أو ما يُسمّى "جو الألفاظ" وهو يخالف عادة المعنى الجاهز. فالألفاظ لا تدل على معانيها المعجمية بل تتعدّاها الى معاني أخرى. لا يُقرأ المعرّي إذاً قراءة أولى بل ثانية وربما ثالثة على غرار بعض النصوص الصوفية التي لا تقف عند الدلالات الظاهرة. وشعره ليس من السهولة والبساطة كي يمنح قارئه متعة القراءة الأولى بل ان من يقبل عليه يشعر أنّه حيال مهمّة شاقة وأمام أبيات مستغلقة لفظاً ومعاني وتراكيب بيانية. لكنّ المتعة لا تلبث أن تنتظم بدءاً من القراءة الثانية وبعد أن يفكّك القارئ الأبيات والقصائد تفكيكاً نحويّاً. و"اللزوميات" في معظمها تشهد على صرامة المعرّي لا في التقفية الفريدة والشاقة وإنّما في الصوغ والصقل والتركيب والانتقاء والاشتقاق وجميعها، في وصفها صنعة خالصة، لم تثقل كاهل إبداعه الشعري ولم تحل دون صدور المعاني وانبثاق الخطرات الداخلية وتجلي التأملات الفلسفية. وغدت المقدمة التي وضعها المعرّي ل"اللزوميات" أقرب الى الدرس في علم التقفية. ولم يسمّ المعرّي ديوانه "اللزوميات" أو "لزوم ما لا يلزم" إلا انطلاقاً من التزامه في القوافي ما لا يلزم فإذا كلّ قافية في القصيدة تحمل رويين عوض رويّ واحد مهما طالت القصيدة. والتزام رويين في القافية الواحدة يدل بحسب بعضهم على التسامي بها إلى ما هو أكمل. ويشير المعري في مقدّمته الى توخّيه "صدق الكلمة" وإلى تنزيهها عن "الكذب والميط" أي المغالاة. ويضيف: "فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد وبعضها تذكير للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين". وديوان "اللزوميات" هو ديوان المعرّي وبيانه الشعري و"الفلسفي" بل هو بمثابة "محيط" شعريّ يستحيل سبره كلّه في أهوائه وعواصفه، في نسائمه وظلاله وفي ظلماته ومتاهاته. ولئن شرح المعرّي ديوان المتنبي وديوان أبي تمام وربما البحتري كما قيل فإن ديوانه ما برح منذ تلك القرون في منأى عن أيّ شرح حقيقي يضيء أسراره وأسرار صنعته وصانعه على السواء. فلا يكفي تفسير بعض المفردات وايضاح بعض ما التبس من التراكيب كي يقوم للديوان شرح بل ينبغي التعرّض للمعاني والمدلولات والرموز من خلال الألفاظ والبنى النحوية التي يحفل بها الديوان. وليس إصرار المعرّي على الإبداع اللغويّ وعلى تطويع اللغة وسبر ما تتمتع به من أسرار وخفايا إلا مضياً في البحث عن حلّ لما يكتنفه من ألغاز وهي ألغاز النفس والموت والكون. وقد تصوّر المعرّي بحسب العلايلي الكون "كلاً لغوياً" والتركيب اللغوي "غير نهائي" ودليله على تصوّره ما قال المعرّي: "هذي حروف اللفظ سطر واحد" ولكن كما يضيف "منها يؤلّف للكلام بحارُ". وفي غمرة الظلام الذي يلفّه لم يبق له سوى اللغة فراح بها يتعرّف الى ذاته الملغزة والى أسرار الكون التي تلمّسها بروحه وعقله معاً. كانت اللغة هي مصباحه الوحيد الذي أضاء أمامه طريق الاختبار والمعرفة الداخليين. لكن المعرّي الذي سمّى نفسه رهين سجونه الثلاثة العماء، العزلة، والروح في الجسد راح عبر اللغة أو الشعر يختلق قيوداً أخرى أو جدراناً ليهدمها ويحقق بعضاً من رجائه في الهروب والفرار. وكانت "القيود" سرعان ما تنكسر حين يمعن الشاعر في القول كيلا أقول الكتابة. والقيود أو السجن المختلق تمثلت تمثّلاً بيّناً في صنيعه الصعب والشاق وقد تجشمه وكأنّه يمارس على نفسه إرهاباً ذاتياً سادياً ومازوشياً في الحين نفسه. فهو الجلاد والضحية: هو القاهر والمقهور يتّخذ أسلوباً حوشياً و"يتكلّف له بقسوة وتعسّف" كما يعبّر العلايلي. وكان هو وصف نفسه خير وصف حين قال عن نفسه: "وحشي العريزة إنسيّ الولادة"، ومن هذه الغريزة الوحشية كان من المستحيل أن يصدر "أنسي الشعر" كما قال طه حسين وكما كان صاحبها "غريب الأطوار" هكذا كان شعره غريباً وفريداً. ويكفي أن يفرض أبو العلاء على نفسه مشقة القافية المزدوجة الرويّ في "اللزوميات" ليتضح أنّ العمل الشعري لم يكن إلا فعل خلق لا من عدم بحسب عبارة مالارميه وإنّما من لغة ولغة صرف. وقد ندّ ديوانه "اللزوميات" كما قال البعض، عن نزعة باطنية، فالرويان واحدهما ظاهر والآخر باطن. ومثلما كان "رهين المحبسين" كانت قافيته الصعبة والقاسية "رهينة رويين" على تعبير العلايلي. وكاد المعرّي عبر إغرابه في استخدام اللغة أن يجمع مفردات العربية كاملة في هذا الديوان الضخم الذي تربو أبياته على أحد عشر ألف بيت وقد "قالها" طوال عشرين عاماً من أعوام عزلته عقب عودته الشهيرة من بغداد. وان كان عصر المعرّي عصر البيان والبديع كما أشيع عنه فأنّ شاعر المعرّة غالى بعض المغالاة في صنيعه الشعري عموماً فسعى قصداً في أحيان وراء "التعقيد" اللفظي والبياني وراح يصطنع الغريب متكلّفاً بعض التكلف دأبهُ إخفاء "أغراض" القصائد على عامّة الناس كما قيل عنه. وكان هو اعترف أصلاً أن "تكلّمه بالمجاز" وأن قصائده ينقصها الخيال الذي يقوم عليه جمال الشعر. وقد عاهد نفسه ألا يضع في القصائد إلا ما يظنه الحقّ. وكم أخذ النقاد عليه قديماً وحديثاً "مشاكلة اللفظ أكثر من المعنى" وعابوا عليه أيضاً إسرافه في القيود اللفظية وفي التصنّع والأبهام والإكثار من المعاني. ومن يرجع الى "شعرية" أبي العلاء يلحظ كم أنّ أفقه الحسّي كان ضئيلاً حتى كادت تنعدم الصور البصرية لديه مثلاً وكذلك التشابيه وسواها. وليس من المستهجن أن يستعير المعري من منابع الصرف والنحو بعض تمثلاته وبعض التشابيه والصور فهو لم يبق له من العالم إلا اللغة فغرق في ظلمتها وراح يضيئها ببصيرته النافذة وولعه الحارق بها. وقد استطاع أن يكون عبر اللغة في أصل الكينونة والكائن. فاللغة غاية وليست وسيلة فقط. ولعلّ نزعته الفكرية ومزاجه الفلسفي جعلاه كما يقال "بارد العاطفة بل جامدها" وعصيّ الدمع وعلى جفاء قلب. إلا أنّ خطورة أبي العلاء لا تكمن فقط في كونه أوّل من أسس هذا اللون من الشعر الفلسفي الذي تخطّى به شعر التأمل والحكمة بل في كونه جعل من اللغة سجناً كي يتحرّر منه. أو جداراً لا ليهدمه وإنما ليتخطاه، فالصنعة المتينة الصعبة المراس ليست إلا هتكاً للقيود الخافية التي تحملها في داخلها. وعبر هذا الرهان أو التحدّي نجح في الارتقاء شعرياً الى "ذروة لم يصلها أحد لا قبله ولا بعده" كما يقول سامي علي. فالشعر هنا فعل إبداع حق حتى وان بدا ظاهراً على مقدار من التذويق فهو باطناً على مقدار من التأمل الفلسفي. وكم تمكّن أبو العلاء من صهر التجربتين تجربة البديع وتجربة التأمل الفلسفي في نسيج شعري واحد، يتداخل فيه المجاز والجمال، الوحشي والأنسي، الديني والعابر. وقد تناقضت الآراء في أبي العلاء واختلف حوله النقاد ولم يُردّ اليه الاعتبار إلا بدءاً من مطلع القرن عندما استعاده بعض روّاد النهضة ومن ثمّ كتّاب في حجم طه حسين وعباس العقاد وأحمد تيمور وطه الراوي وكامل كيلاني وبنت الشاطئ وعبدالله العلايلي ومارون عبّود وسواهم اضافة الى بعض المستشرقين الذين تناولوه ونقلوا بعض شعره ونثره الى لغاتهم.