القصائد الأولى التي قرأتها للشاعر الفرنسي أنتونان أرتو في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم، كانت من ترجمة الشاعر أنسي الحاج، وقد نشرها في مجلة "شعر" خريف العام 1960 وأرفقها بدراسة شاملة وعميقة عن صاحبها. كان الحاج حينذاك في الثانية والعشرين ويتهيأ لإصدار ديوانه الأول "لن" مع مقدمته التي تُعدّ بحق البيان الأول لقصيدة النثر العربية وللقصيدة الحديثة"المتمردة"على اللغة والعقل والمنفتحة على اللاوعي والحلم والدخيلاء. لم يكن اختيار أنسي قصائد أرتو وتقديمها ضرباً من ضروب الترجمة أو التعريف بالشعر العالمي الجديد على طريقة مجلة"شعر"، بل كان هذا الاختيار أشبه بالفعل الشعري نفسه. فمن يقرأ القصائد في صيغتها العربية يدرك أن أنسي الحاج لم يترجمها فقط بل كتبها بالعربية مسبغاً عليها نَفَسه ولغته المتوترة، وهما سيتجليان في ديوانه"لن"."كتب"أنسي قصائد أرتو بالعربية أكثر مما ترجمها، كتبها وكأنه يكتب قصائد هي مرآة له، مرآة رأى فيها"قرينه"الغريب وذاته الأخرى وپ"أناه"الشقيقة. وجد أنسي الحاج الفتى في قصائد أرتو ذريعة ليطلق صرخته الشعرية في"لن"وحافزاً ليمضي في مشروعه التدميري وجماليته"المتشنجة"وشعريته القائمة على الانقطاع والاختناق واللعنة واللا - لغة... كأنه وجد في أرتو الصديق الأول الذي شجعه على الانطلاق بمغامرته الفريدة. وقد يُفاجأ القارئ كيف أمكن شاباً في مقتبل ربيعه أن يضع مثل هذا البحث في شاعر فرنسي مجنون ومتفرد، أضرم النار في القصيدة وأشبعها آلاماً وعنفاً وتمزقاً. بحث ما زال يُعدّ من المراجع المهمة لقراءة أرتو الشاعر، مع انه لا يخلو من النزعة الذاتية التي دفعت الحاج الى الاعتراف في مستهله بوطأة أرتو عليه وشدة طغيانه، كأن يقول:"لن أستطيع أن أعطي عنه دراسة منسجمة. إنه يربض عليّ ولا أستطيع". لكنه كتب دراسة حقيقية بدا فيها كأنّه يكتشف نفسه فيما هو يكتشف أرتو، الشاعر الذي لا يمكن سبره كلياً. كان هذا البحث الطريق الأول لاكتشاف أرتو عربياً. وقد يكون أنسي الحاج هو أول من ترجم قصائد لهذا الشاعر وكتب عنه. فبعده لم تبرز أي ترجمة لافتة لقصائد من أرتو، فيما تُرجم كتابه"المسرح وقرينه"ترجمات عدة في القاهرة وسورية وتونس وسواها، وكان أثره بيّناً في المسرح العربي الحديث ولا سيما عبر مفهوم"القسوة"الذي تبناه مخرجون مسرحيون طليعيون. أما شعرياً فظل أرتو شبه غائب. شعراء كثيرون جايلوه حضروا عربياً أكثر منه وتُرجموا وما برحوا يُترجمون. وقد لا يُستغرب هذا الحضور الضئيل أو الخفر، لشاعر ينتمي الى سلالة"المرضى"الذين بحسب الحاج في"المقدمة"هم الذين"خلقوا عالم الشعر الجديد". وكم أصاب الحاج في جمعه بين رامبو وأرتو في مطلع دراسته وكأن أرتو جسّد صورة الشاعر"الرائي"أو"العراف"وپ"المريض الكبير"وپ"الملعون الكبير"، هذه الصورة التي سعى رامبو الى تجسيدها في شعره وحياته. لكن أنسي الحاج يجاهر بانحيازه الى أرتو في قضية"المرض"الشعري قائلاً عنه:"إنه هو المريض الكبير، دون سواه، هو الواصل الى المجهول دون سواه والهالك فيه وحده". عندما رجعت الى قصائد أرتو الأصلية ورحت أكتشفه بالفرنسية خصوصاً عبر ديوانه"سرّة اليمبوس"لم تغب عن مخيلتي ترجمة أنسي الحاج ولا دراسته عنه. لم أشأ أن أقارن بين الأصل والترجمة لأنني وجدت في الترجمة روحاً أخرى مضافة الى روح أرتو. ولم يكن يهمّني إن كان أنسي أصاب هنا أو أخفق هناك، هو الذي كان في مقتبل تجربته الحارقة التي تشعل أكثر مما تضيء. كان ما يعنيني في القصائد أنها قصائد أرتو بحسب أنسي الحاج صاحب"لن"، هذا الديوان الذي لم يُقرأ جيداً لدى صدوره وأحيط بالكثير من اللغط وعدم الفهم، هذا الديوان الذي افتتح عهداً جديداً في الشعر العربي، مخترقاً اللغة الى اللا - لغة، واليقين الى الشك، والوجود الى العدم، والشعر الى الصراخ، والبناء الى الهدم الذي هو بناء في أوج الفوضى والاختناق والموت. إلا هذه المقاربة لا تعني أن أنسي الحاج أخذ عن أرتو أو تأثر به تأثراً أعمى. في عدد مجلة"شعر"نفسه خريف 1960 نشر أنسي الحاج أيضاً أولى قصائده في هذه المجلة. وتكفي المقارنة بين هذه القصائد وقصائد أرتو المترجمة لتبيان سر العلاقة بين الشاعرين. تبدو لغة الحاج في قصائده التي ضمّها ديوان"لن"بعد ثلاثة أشهر، مشبعة بروح الجمالية اللبنانية التي لم تفارق شاعرنا حتى في أقصى أحواله رفضاً وتمرداً وتدميراً. فمثلما هو ابن شعر"اللعنة"وزمن"السرطان"هو أيضاً ابن المدرسة اللبنانية، شعراً ونثراً. وقد يفاجئ دوماً لدى الحاج، هذا السحر الذي تمارسه اللغة في شتى تجلياتها. وهذه السمة هي التي ميّزت ترجمة الحاج لقصائد أرتو، الشاعر القرين. ولعلّ هنا يكمن سرّ أنسي الحاج الذي كلّما تمرّد على اللغة ودمّرها أضرم فيها نار الجمال، الجمال الغامض والسرّي. كان أرتو إذاً أشبه بالمرآة التي شاهد أنسي الحاج صورته الشخصية فيها. في هذه المرآة أبصر ملامح من وجهه، من تمرّده، من ألمه، من جنونه، من لا وعيه، من موته ومن السرطان الذي دمّره روحياً منذ استيقظ عليه يفتك بجسد أمه وروحها. اكتشف الحاج سرطان أمه في سرطان أرتو، ومثله حوّل السرطان هاجساً شعرياً، في جسد اللغة"المصابة". يقول الحاج عن أرتو:"لقد ظل يموت. بل كلا. لقد ظل لا يحيا، بل كلا، لقد لا ظلّ". لا أعتقد انني قرأت جملة برهبة هذه الجملة وحدتها الساطعة. وفي ختام الدراسة يقول:"جسد أرتو لم يُصنع بعد، لأنه لن يُصنع". هذا الجسد هو مثيل جسد الأم الذي لا يتجسد. ما أحوج قارئ أنسي الحاج أن يعود الى ما كتب عن أرتو وما ترجم له من قصائد، ففي هذا العمل"الفتي"والنزق يكمن أحد مفاتيح عالم أنسي الحاج، هذا العالم المتعدد الظلال والسفوح، والمفعم بالأسرار التي هي أولاً وآخراً أسرار الكائن الذي هو الوجود وعدم الوجود، الضوء والعتمة التي يسبح الضوء فيها.