لا تشبه مدينة طرابلس سواها من المدن اللبنانية خلال شهر رمضان المبارك، بل هي لا تشبه ذاتها في بقية أشهر السنة. تلبس طرابلس خلال الشهر الكريم عباءة منسوجة من خيوط التراث الإسلامي، ما يمنحها بعضاً من"وقار"الماضي الجميل، الذي قلصت منه مظاهر العصرنة و"الغربنة"التي تفشت في المدينة خلال السنوات العشرين الأخيرة. ما ان يهلّ رمضان، حتى تعبق طرابلس ب"رمضانيات"أهلها الخاصة. فيتفننون في إغناء أيامهم الرمضانية، وهم أصحاب باع طويل في الكرم والذوق والتقاليد العريقة. يستعد الطرابلسيون لاستقبال ضيفهم السنوي قبل أسابيع من وصوله. وما أن يحل عليهم حتى تتطعم يومياتهم بنكهة خاصة. يحوّلون شوارع مدينتهم، خصوصاً الشعبية منها، خلية نحل لا تكل ولا تهدأ من الصباح الباكر حتى ساعة متقدمة من الليل، ما عدا وقت الإفطار. إذ تصبح حينها الشوارع مقفرة، لا حس فيها ولا أنس، إلا أصوات قرقعة الملاعق والصحون في البيوت المجاورة. يبدأ اليوم الرمضاني في طرابلس من صلاة الفجر، ومن ثم الانتشار في الأسواق الشعبية، خصوصاً تلك المتخصصة بالمأكل والمشرب سوق الخضر، سوق العطارين، سوق القمح، وغيرها... وهي تعج بالرواد من أنحاء المدينة ومن القرى والبلدات المحيطة. ويلحظ زائر المدينة ازدحام هذه الأسواق في رمضان. فالجميع يتبضع ما لذ وطاب بغية إعداد مائدة الإفطار... وما يلحق بها. هنا يطيب الحديث عما تحويه هذه المائدة من ألوان الطعام الشراب. فالى الطبق اليومي الرئيسي، تكاد لا تخلو مائدة الإفطار الطرابلسية من الثوابت الآتية: الحساء، الفتوش، التبولة، البطاطا المقلية، المغربية، التسقية أو الفتة، الكبة النية، الحمّص بالطحينة، إضافة الى الشراب المفضل لدى أفراد العائلة من خرنوب وسوس وتوت وقمر الدين وتمر هندي. من دون أن ننسى الخبز الرمضاني الشهير على أنواعه ومذاقاته المختلفة. لكن مائدة الإفطار ليست أكلاً وشرباً وحسب، بل هي أيضاً جمع لشمل العائلة والأقارب والأحباب. فالصائم يحرص على دعوة هؤلاء الى مائدته للافطار، وله في ذلك فائدتان: الاجتماع بمن يحب من جهة، وأجر مضاعف عند الله من جهة ثانية. فيصبح بذلك الكرم الواحد... كرمين. وليس بعيداً من حديث المائدة، يبرع الطرابلسيون في صنع الحلويات على أشكالها وألوانها المختلفة... حتى باتت طرابلس في هذا الاختصاص العاصمة الأولى للبنان، لا الثانية. أما مدفع الإفطار، فما زال تراثاً طرابلسياً حياً، إذ يطرب أهل المدينة لدويه، إثر مغيب شمس كل يوم رمضاني. وما ان تمتلئ معدة الطرابلسيين بالأطايب، حتى ينتشروا في الأسواق الداخلية الشعبية، إما لارتياد المقاهي، وإما لشراء ثياب العيد لأفراد العائلة وأطفالها. وتتزيّن تلك الأسواق بعربات القهوة والعصير والحلويات الشعبية الخفيفة. وهذا أمر لا يحدث في سائر شهور السنة. وما أن يؤذن لصلاة العشاء، حتى تغص المساجد بالمصلين من كل الأعمار والفئات، حتى الانتهاء من صلاة التراويح. ثم ينتقل الطرابلسيون الى"وصل أرحامهم"عبر زيارة الأهل والأقارب، حيث للسهرات الرمضانية العائلية طابع خاص وتقليد اجتماعي يحرص عليه كثيرون. بعض تلك السهرات ينفك قبيل منتصف الليل، وبعضها الآخر يمتد حتى موعد السحور، حيث يطوف المسحر أو المسحراتي في الشارع حاملاً طبلته، ضارباً عليها ومنادياً: "يا نايم... وحّد الدايم" لإيقاظ النائمين حتى يتناولوا مع أفراد العائلة السحور المبارك... قبل أن ينادي المؤذن:"الله أكبر... الله أكبر".