الحديث عن طرابلس الشام شيّق للغاية، خصوصاً إذا ما تناولها الباحث من الجانب التراثي فيها. فتراث طرابلس عريق للغاية من عهد الفينيقيين العرب، الى زمن المماليك والعثمانيين المسلمين. وبين هذين الزمنين، تقع دولة الأمويين والعباسيين والفاطميين والصليبيين والأيوبيين. ويذكر الباحثون والأثريون ان طرابلس تعتبر ثانية المدن العربية بالآثار المملوكية بعد القاهرة. فهي تضم أكثر من 130 مبنى أثرياً من جوامع ومدارس وحمامات وخانات وأسواق ومزارات وزوايا، وجميعها آثار اسلامية مملوكية وعثمانية. ويعتبر الجامع المنصوري الكبير الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون سنة 1294 م ونسب الى الملك المنصور فاتح طرابلس هو أعظم مساجدها الأثرية التي تعدّ ستة عشر مسجداً. أما مدارسها الاسلامية الأثرية فعددها سبع وثلاثون مدرسة. وعدد حماماتها الأثرية ثمانية حمامات. وعدد خاناتها ستة خانات. وعدد مزاراتها وزواياها يبلغ العشرة بين مزار وزاوية. وعدد سبلها وبركها الأثرية 18 سبيلاً وبركة. أما أبراجها فعددها ثمانية. ناهيك عن قلعتها العظيمة المعروفة بقلعة "سنجيل" والتي بنيت على حصن ثغيان الأموي، وآثارها الأخرى المتنوعة والمتمثلة باللوحات الأثرية والبوابات والقناطر والمنازل المعلقة فوق الأسواق والدكاكين القديمة والقبوات والأدراج والأجران والبرك في الخانات والساحات القديمة. مما يجعلنا نؤكد أن المنطقة الممتدة من جامع التوبة شمالاً الى الجامع المعلّق جنوباً وصولاً الى الجامع المنصوري الكبير، تعتبر بأكملها منطقة أثرية متكاملة. وقد ذكر الخبراء والأثريون أن أسواق طرابلس القديمة يبلغ طولها ثلاثة كيلومترات على أقل تقدير. رمضان في الربوع الطرابلسية والواقع إن من يزور طرابلس الشام في شهر رمضان المبارك، يجد كأن حدثاً عظيماً قد جرى. فتتحوّل مثلاً حياة الناس وعاداتهم ونظم حياتهم اليومية، فتأخذ مظاهر وتقاليد وعادات جديدة، تظهر فجأة، وتجعل الناس جميعاً في تسارع مع الوقت، بكل فرح وغبطة وحركة نشيطة. واعتاد الناس في طرابلس، انهم حين يشعرون بقرب قدوم رمضان، أي في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، يتهيأون لسيران رمضان في آخر يوم عطلة من شهر شعبان. فنراهم يخرجون الى الطبيعة لقضاء يوم كامل في البساتين والحقول والجبال المجاورة. وكثيراً ما نرى العائلة تصطحب معها طعامها: المشاوي على أنواعه والتبولة والقهوة والنارجيلة والبزورات الطازجة إضافة الى المشروبات الحلوة والفاكهة الطازجة. ومن ثم يعقدون حلقات الفرح والرقص والغناء، وتداول جميع الأنواع من ألعاب التسلية والمرح. وقد سميت هذه العادة "سيراناً"، لأن الناس كانوا يعتمدون السير على أقدامهم باتجاه بركة البداوي التي يتيمنون بها وبأسماكها، أو برج رأس النهر أو مطل الشرفة باتجاه المولوية، وهي خلية صوفية، كانت زاوية لفرقة المولوية الصوفية الشهيرة. ثبوت الهلال ويعتبر التماس هلال رمضان من التقاليد المتوارثة في المدينة الشامية. ويذكر الطرابلسيون انه مع غروب شمس التاسع والعشرين من شهر شعبان، كان المسؤولون يذهبون الى دار المفتي بطرابلس، ينتظرون الإبلاغ عن رؤية هلال رمضان. وكان هناك نفر من أبناء المدينة يتطوّعون لالتماس الهلال في تلة قريبة من القلعة تعرف ب"تلة الزعبيّة". وقد يخرج معهم بعض أعيان المدينة. وعند ثبوت رؤية الهلال، كانوا يبلغون المفتي بذلك، فيشهد الشهود، ويوعز الى "المدفعجي" في القلعة ان يطلق من مدفع القلعة سبع طلقات. ثم تخرج نوبات الصوفية لتجوب الشوارع، وتوزع الأشربة في الأسواق وخصوصاً قرب بركة الملاّحة أو بركة الصاغة بصورة مجانية على الناس. وتعتبر ليلة أول رمضان، ليلة مميزة بعد الإفطار، ولها وقعها الخاص في النفوس. إذ يسرع الناس في المساء الى تهنئة أقربائهم بحلول الشهر الكريم، وخصوصاً المسنين منهم، وبعد منتصف الليل، يظهر "المسحراتي"، ويطوف على الدور، ويتولى مهمة إيقاظ النائمين، ويدعوهم لتناول السحور. وكان له رونقه الخاص في الأحياء الشعبية. أما في القديم، فكان أحد عقلاء الحيّ هو الذي يتولّى هذه المهمة. إذ يأخذ بالطواف بطبلته مترنماً بما يتيسر له من المدائح النبوية. وكان يتوقف للحظات ينادي أهل الدار قائلاً لهم: "وحّدوا الله". وكثيراً ما كان ينادي على صاحب الدار بالاسم. ومن العائلات التي ظهر منها المسحراتي في طرابلس: القدوسي والغندور واللوزي والزاهد والبيروتي. وبعد تحضير طعام السحور وإقبال العائلة على المائدة والانتهاء من ذلك، كان يخلد الجميع الى النوم. وغالباً ما كانت تتأخر الحركة في الشارع في صباح اليوم التالي. المائدة الرمضانية الطرابلسية وتعتبر المائدة الرمضانية الطرابلسية، مائدة لها تراثها العريق عند جميع العائلات، وهي مميزة وغنية، ولذلك اكتسبت شهرة عظيمة بين جميع الأوساط في المحيط الشامي. وكانت هذه المائدة تزين أول ما تزين بحبات التمر، ليتناولها الصائم قبيل الوجبة الرئيسية. ويتصدّر طبق الحساء المائدة أيضاً، لأن الصائم يحتاج لترطيب معدته وتحضيرها. أما طبق "الفتة"، فكثيراً ما يشتريه الناس من محلة باب الحديد، وهو يشدّ الأنظار بلونه المميز: اللبن الأبيض الممزوج بالطحينة والحامض والثوم والسمن المغلي والصنوبر المحمص والبهار. والى جانبه البصل والفجل والكبيس المشكل. أما "طبق الفتوش"، فهو أيضاً مميز في رمضان بطرابلس. وكانت ربّة المنزل تتقن تزيينه وتشكيل خضاره وتحسين طعمه بدبس الرمان والزيت الفاخر. أما صحن "الكبة النية" فله مكانه اليومي على المائدة الرمضانية بطرابلس. وكذلك صحن المغربية "الكسكس" و"جاط المخلل"، الذي يبتاع عادة من سوق القمح أو سوق العطارين لاختصاصهم به. وهو يتكوّن من اللفت والخيار والقيثاء والباذنجان والفليفلة والملفوف والقنبيط. أما الأشربة الرمضانية الطرابلسية، فهي أيضاً متنوعة ومميزة. وهي تنتشر على بسطات السوق في طرابلس منذ أول أيام رمضان، وتشتمل على شراب التوت والخرنوب والسوس والعصير ليمون، جزر، تفاح. وتكاد أن تكون هذه البسطات من السمات الرمضانية الطرابلسية القديمة في المدينة. أما شراب القمرالدين فهو شراب طرابلسي شامي مميز. ولا ننسى أيضاً الحلويات الطرابلسية المميزة في رمضان، فهي تتشكل من "الكنافة" و"زنود الست" و"ورد الشام" والكلاج والكربوج وحلاوة الجبن وصحن المهلبية وأقراص البرازق، والتي ينادي الباعة عليها في الأسواق القديمة، وأحيائها الشعبية العريقة. تراث رمضاني طرابلسي ومن تراث رمضان بطرابلس، "السكْبة" التي يسكبها البيت لجيرانه في أماسي رمضان. وتعتبر "السكبة" من تقاليد المدينة العريقة. وهي متوارثة عن الآباء والأجداد. وهي تكون بسكب صحن من الطعام كل يوم للجيران والأقارب والفقراء بصورة خاصة. فقبل مدفع رمضان، تجد صبية الأحياء، يحملون الصحاف الملأى بأصناف الطعام، تسكبها ربات البيوت. فتراهم يطوفون بها على أبواب الدور، يقرعون بشدّة، والفرح يعتمر في قلوبهم والابتهاج والحبور يضمران النفوس. وتوزّع "السكبة" عادة عن أرواح الموتى أو مساعدة للجارة الحامل لأنها لا تقدر على تحضير "سفرة رمضان" مثل غيرها بسبب "وحامها"، علماً أن الصحن عادة، لا يعود فارغاً. وإذا بالمائدة في البيت الواحد، تصبح غنية بأنواع السكبات المختلفة الألوان، من دور الجيران ومطابخهم. سهرات ومجالس رمضانية وكانت السهرات الطرابلسية في رمضان مميزة للغاية. فقد كانت تجري قبل أن يظهر التلفزيون، في المقاهي الشعبية، حيث تروى سيرة عنترة والزير سالم والمهلهل وفيروز شاه وسير الظاهر بيبرس وحكاية ألف ليلة وليلة، وغيرها الكثير من القصص الشعبي الغني والمتنوّع. وفي مطلع القرن العشرين، كان الشيخ محمود الكراكيزي، يتولّى تقديم حوارية "كركوز وعيواظ" في لعبة خيال الظل التي كان قد برع فيها. ولم تغب مظاهر السهرات الشعبية من أحياء مدينة طرابلس القديمة حتى زمن قريب جداً. أما مجالس الوعظ الديني، فكانت تكثر في المساجد والجوامع والتكايا والزوايا. وقد عرفت أحياء طرابلس أكثر من 20 تكية وزاوية صوفية، كما بلغ عدد مآذنها نحو المئة مئذنة. ومع بداية شهر رمضان، يبدأ الصائمون بالتوافد الى أبواب المساجد، ليفيدوا من دروس الوعظ والإرشاد التي تنظمها دائرة الأوقاف الدينية عقب صلاة العصر من كل يوم. كذلك نرى الحلقات الصوفية في الزوايا تتسع لعدد كبير من المريدين. وفي الجامع المنصوري الكبير، تبرز زاوية خاصة كان يعقدها منذ زمن طويل الشيخ محمود مملوك المعروف ب"أبو العبد"، والذي وهبه الله علم أحكام التلاوة، تعلّمها من عدد من مشايخ طرابلس المشاهير. وقد ظلّ ينفرد بميزة استقطاب الطلاب الذين يعلمهم أحكام التلاوة. وكان يقدّم للمجيدين منهم، هدايا فورية من أقلام وقرطاسية وسكاكر تمتلئ بها جعبتهم من عطاءات العارفين بدورهم في المستقبل. الأسواق الرمضانية الخاصة وفي رمضان من كل عام نرى طرابلس القديمة تشهد ظاهرة الأسواق الرمضانية الموسمية في شوارعها الداخلية وأحيائها الشعبية، فتغصّ الشوارع القديمة وقبواتها وبسطاتها بالناس، ويكثر الازدحام وتعلو أصوات الباعة، ويتعفف البائعون والمتسوقون، وتتضوّع رائحة العطور الزكية في كل الأنحاء، تذكر جميعها بالطهر والعبق السنيّ. ونحن نرى كيف يرتاد الناس قبيل صلاة العصر، سوق العطارين، ليتنسموا أجواء رمضان، وتبتهج نفوسهم بالرائحة الزكية، فيوحدون الله ويصلون على نبيّه الكريم. كذلك يزدحم المارة في سوق القمح لابتياع الخضار والفاكهة والأشربة وجاط المخلل. وأنت تجد بينهم أيضاً، الفضوليّ والمتسوّق وعابر السبيل. وأهم ما يلفت الانتباه في السوق، البسطات التي تنتشر بكثرة على الجانبين، تغري الصائمين، نظراً لما تتصل بها من عناصر الزينة المختلفة والتي تشدّ الأنظار وتستدعي الفضوليّة. المسحراتي وحكاية "المسحراتي" الذي كان يخرج مع مجموعة من المنشدين في أواخر الليل من رمضان، لذيذة وطريفة. فقد كانت له شخصيته المحببة الى القلوب. وكان يتمتع بصوت شجي، يرسل به دعواته وأناشيده وعظاته. وغالباً ما يكون بصحبة عدد من رفاقه يشكّلون جوقة الإنشاد التابعة له. وهو يجوب الشوارع والأزقة، ويدخل الأحياء، فيقرع أبواب البيوت، ويتوقف هنا، ويتمهل هناك، حتى يستيقظ الناس و"يوحدوا الله" وهو يدعوهم بصوت عذب لتناول طعام السحور لأنه من السنّة. وعلى وقع الطبلة التي يحملها المسحراتي، ونقر الدفّ الذي يحمله مرافقه، وصوت الصنج الذي يضرب بين الحين والآخر، كان الناس يستيقظون، فرادى وجماعات، يشعلون أضواء المصابيح والفوانيس، ويوقدون النّار ويحضرون الموائد للسحور. ويستيقظ الناس جميعاً، كما لو أنهم في ساعة من ساعات النهار، وتعلو القرقعات وتتململ الأحياء، وتتقلّب جنباتها بالناس من كل حدْب وصوب. بعثات واستقبالات وطيلة شهر رمضان، كانت طرابلس تستقبل رجالات الدين والبعثات الدينية. فكان يأتي اليها سماحة الشيخ نديم الجسر، ليستقبل الشيخ علي شيخ العرب، الذي كان مفتي الجيش في اسطنبول. فتقام الحلقات الدينيّة، وتتلى آيات الذكر الكريم، ويستتبع ذلك خطب الوعظ والإرشاد. وفي أواسط الخمسينات استقبلت طرابلس في شهر رمضان المبارك، المقرئ الكبير، فضيلة الشيخ مصطفى اسماعيل، الذي قدم اليها من القاهرة، فاستقبلته دائرة الأوقاف وجمعيّة المكارم الاخلاقية. وقد قرأ القرآن الكريم في الجامع المنصوري الكبير، فاحتشد الناس في المسجد، حتى وصل العدد الى نحو عشرة آلاف رجل. إذ سارع معظم أهالي طرابلس لسماع قراءته وتجويده. والتفّ حوله المقرؤون الطرابلسيون، مثل الشيخ محمد صلاح الدين كباره رحمه الله والشيخ نصوح البارودي رحمه الله ومعظم الحفظة الكرام من الشيوخ الأجلاّء. ومن التقاليد الاجتماعية والدينية في هذا الشهر الفضيل، ان معظم الجمعيات الدينيّة ذات الطابع الخيريّ، كانت تقيم احتفالاً في يوم من ايام الاسبوع في مربع الشاطئ الفضّي، من اجل جمع التبرعات من المحسنين، ويكون ذلك لمرة واحدة لكل جمعيّة طيلة شهر رمضان. وتقوم هذه الجمعيات بدعوة رجالات طرابلس وتجارها وأرباب الأموال فيها. فنراهم يلبّون الدعوة بسخاء وكرم منقطع النظير. الرحالة الشيخ القاياتي بطرابلس في رمضان وفي كتاب "نفحة البشام في رحلة الشام" يذكر الرحّالة الشيخ محمد عبدالجواد القاياتي، انه زار طرابلس في رمضان اواخر القرن التاسع عشر، فهرع لاستقباله جلة علمائها الأفاضل في ذلك الوقت: الشيخ عبدالغني الرافعي والشيخ عبدالرزاق الرافعي والشيخ علي الميقاتي والشيخ رشيد الميقاتي والشيخ حسين الجسر نجل الشيخ محمد الجسر. والشيخ عبدالفتّاح الزعبي والشيخ محمد القاوقجي. ويفرد الشيخ القاياتي صفحات طويلة للقائه بهؤلاء العلماء في هذا الشهر الفضيل، ويصف طرابلس التي لبست حلة العيد، فيتحدّث عن بساتينها النضرة واشجارها الفوّاحة ومتنزهاتها في المحل الذي يسمّى بالتل، "وهو في الحقيقة تل مشرف على ارض حمراء وبساتين خضراء ومياه زرقاء". وأظن انه كان ينزل في المقهى العثماني الكائن في ذلك التل. ويتحدّث القاياتي عن سائر محال طرابلس فيقول: "ومحل دوار القارب في خارج البلد، قريب من التبانة في الشمال الشرقي من البلدة، على شط غدير صغير، وعليه جسر نضير، وحواليه بساتين زاهرة ناضرة، تقرّ به كل عين ناظرة. ومحل القلعة، موضع مشرف على سائر بيوت البلد وأسواقها ومساجدها وبساتينها ومزارعها. وفيه قشلاق للعسكر، ومقبرة قديمة، بها قبول السادة الزعبية. والجالس فيه يرى البحر والمينا وما بينهما من المساكن والجناين". ويقول انه زار تكية المولوية في رمضان، فدهش بها، فهو يقول: "وفي منخفض الوادي من الجهة الجنوبية منها، محل نضير فيه تكية، تسمّى تكية المولوية. من أعظم المنازه أيضاً، لأنها على شاطئ الوادي. وتحتها الأنهر المنحدرة الى البلد، وعليها طواحين كثيرة، وأشجار نضيرة. وفي هذا المحل نفسه بركة ماء بنافورة عظيمة، ترى المياه منها دائماً مدفوعة لا مقطوعة ولا ممنوعة". ويذكر الشيخ القاياتي زيارته الى بيروت في شهر رمضان، إذ يقول: وممن اجتمع بنا في بيروت... في شهر رمضان خاصة، الشيخ الحمصي المشهور بالجوعان. رجل شاعر مغنٍ عارف بالموسيقى له شغف بتبديل القصائد الأدبية، وبالخصوص قصائد الشيخ محمد أفندي الهلالي الحموي... فإنه متى سمع قصيدة أو موشحاً أو دوراً، غيّره بالأكل والشرب والأطبخة والحلواء، بأعجب طريق وأغرب أسلوب، وليس له في سوى ذلك مقال". ويتابع شيخنا القاياتي متحدثاً عن الشيخ الحمصي المعروف بالجوعان فيقول: "كان يحضر الى منزلنا في ليالي رمضان، ويسمع قراءة القرآن من اخواننا الحفاظ المصريين الذين كانوا في تلك السنين الأربع يحضرون للسهر عندنا في بيروت، مع تكبّد المشاق ومعاناة ما لا يطاق في البحر وأهواله ووابور مصر وأحواله". والحديث عن السهرات الرمضانية في طرابلس، سواء في المنازل أو خارجها، حديث عذب وشيق. وقد وقف الرحالة القدماء على كثير من الأماكن الطرابلسية في رمضان، فوصفوا لنا المقاهي والخلاوي وأروقة المساجد وصحونها وباحاتها والأسواق والأقبية. وكيف كانت الأنوار تشعشع في تلك الأمكنة من فوانيس أخّاذة، تبرّع بها الأثرياء أو قدمتها دائرة الأوقاف أو الحاكمية. فكانت تبسط أنوارها على معالم الزينة الرمضانية وأقواس النصر والرايات والأشرطة واللافتات، في ساحة الجامع المنصوري الكبير مثلاً، أو داخل الأسواق: سوق البازركان وخان الخياطين وسوق الكندرجية والتكايا والزوايا والأسبلة والكتاب. المهلبيا وتقاليد الوداع ويتحدّث الرحالة عن تقاليد رمضانية بسيطة عرفتها طرابلس دون غيرها من مدن الشام. ففي رمضان، كان أهلها يصنعون مهلبيا خاصة لأماسي رمضان، توزّع مجاناً في ساحات المدينة وأمام زواياها وخلاويها، وفي صحون مساجدها وجوامعها ومدارسها الدينية. وكانوا يقدمونها على نفقة الميسورين والمقدّمين. كما كانت عائلات أخرى تتبارى في تقديم أشربة وحلويات أخرى بصورة مجانية، إيثاراً لرضى الله تعالى، وابتهاجاً بشهر رمضان المبارك، وذلك طوال أيامه الثلاثين. ومن تقاليد رمضان المبارك التي لا يزال الناس يتمسكون بها في طرابلس، جوقة وداع رمضان... إذ في العشر الأخير من رمضان، تقوم جوقة الوداع بجولة مسائية على الأحياء والبيوت، برفقة المنشدين، يهللون وينشدون ويكبرون، ويغنون الموشحات الدينية على وقع الطبلة ونقر الدفوف وايقاع الصنوج. وغالباً ما تكون جوقة الوداع مطعمة بمجموعة من أصحاب الطرق الصوفية، زيادة لكرامتهم. ومن شباب جوقة الوداع من يحمل المشاعل، ومنهم من يحمل المصابيح والفوانيس، ومنهم من ينقر على الدفوف أو يهزّ المزاهر. فتنقلب حياة طرابلس في الليالي العشرة الأخيرة من رمضان، وكأنها في مهرجان فرح روحي وديني . وكأن الناس فيها، أعضاء عائلة واحدة. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.