الموسيقي صلحي الوادي الذي رحل قبل أيام مثّل حالة متفردة في عشقه للموسيقى، هذا العشق الذي جعله يضحّي بالمال والجاه. وقلّة هم الذين يعرفون أن صلحي الوادي هو الابن الأكبر لحامد الوادي زعيم عشيرة"الدليم"في العراق، الذي كان نائباً في البرلمان العراقي ابان الحكم الملكي، وتولى منصب رئيس الديوان في عهد الملك فيصل الثاني. وحباً بدمشق، وخوفاً من الأعاصير السياسية التي كانت تحيق بالعراق، اختار حامد الوادي لأسرته الاقامة في دمشق، وانتقل صلحي مع العائلة الى العاصمة السورية طفلاً صغيراً وعاش فيها حياته ودفن فيها بعد وفاته. درس صلحي الوادي المرحلة الابتدائية في دمشق، ثم أوفده والده الى الاسكندرية لدراسة المرحلتين المتوسطة والثانوية في كلية فكتوريا، وخلال اقامته هناك درس الموسيقى على يد عازف كمان روسي وآخر يوناني. وبعد نيله الثانوية أوفده والده الى بريطانيا لدراسة الهندسة الزراعية، كي يقوم بالاشراف على المزارع الواسعة التي يمتلكها الأب في العراق، لكنه، من دون علم أبيه، انتسب الى الكلية الملكية للموسيقى في لندن ودرس قيادة الأوركسترا وظل يخفي ذلك عن أسرته، ولم يكن يعلم بدراسته الموسيقى الا صديقه وزوج شقيقته لاحقاً الناقد الموسيقي صميم الشريف، وبعد مرور سنة على دراسته أخبر والده، لأنه لا يحب التعامل مع الأرض والحيوانات، وفي عام 1955 عاد الى دمشق وبرفقته خطيبته عازفة البيانو سينثيا التي أصبحت زوجته. منذ عام 1955 بدأ صلحي الوادي رحلته مع الموسيقى، فكانت كل شيء في حياته حتى أنه ضحى من أجلها بزعامة العشيرة، حين حضر كبارها الى دمشق ليبايعوه زعيماً لهم. شكل الراحل تياراً كبيراً من الموسيقيين هم الآن عماد الحركة الموسيقية النشطة في دمشق، كما استطاع تكوين جمهور كبير من عشاق الموسيقى الكلاسيكية يتابعون حفلاتها بشغف واهتمام. ففي عام 1960 تولى ادارة المعهد العربي للموسيقى في دمشق التابع لوزارة الثقافة، وعلى رغم أن المعهد للأطفال الا انه كان يتابع رعاية الطلاب الموهوبين حتى نيلهم الشهادة الثانوية، ثم يؤمن لهم بعلاقاته الشخصية الإفادات لدراسة الموسيقى في أوروبا، وأصبح عدد منهم موسيقيين كباراً، أذكر منهم عازف البيانو غزوان زركلي ومغنية الأوبرا لبانة قنطار والعازفين فايز علبي وعرفان حنبلي ورانيا المالكي وغيرهم.. من هؤلاء الطلاب ومن اساتذة المعهد شكل فرق موسيقى الحجرة التي كانت تقيم حفلاتها بقيادته على مسرح الحمراء بدمشق، وتطورت هذه الفرق حتى زاد عدد احداها عن خمسين عازفاً، أي انها اقتربت بحجمها من الفرقة السيمفونية. بذل صلحي الوادي جهداً كبيراً ليقنع المسؤولين بضرورة انشاء معهد عال للموسيقى، وتحقق ذلك بإصراره، فافتتح المعهد عام 1990 وتولى عمادته، وفي عام 1993 حقق انجازه الأكبر وهو تشكيل الفرقة السمفونية الوطنية التي قدمت أولى حفلاتها في قصر المؤتمرات في كانون الأول ديسمبر من العام نفسه، واستطاعات الفرقة تحقيق سوية جيدة على الصعيد العربي والعالمي وقدمت حفلاتها في دول عربية وأجنبية منها لبنان ومصر والعراق والولايات المتحدة وتركيا وايطاليا والأردن والكويت وألمانيا واسبانيا. ومن خلال الفرقة السيمفونية حقق أهم انجاز موسيقي في تاريخ سورية الموسيقي، حينما قدم أوبرا ايناس ودايدو على مسرح المؤتمرات عام 1996 وكان في مخططه أن يقدم أوبرا زنوبيا لكن مرضه حال دون ذلك. واذا كان صلحي الوادي عشق الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية وخدمها، وحقق فيها نهضة كبيرة في سورية، الا انه كان يحمل كراهية للموسيقى العربية، الأمر الذي جر عليه الكثير من الخصومات وسبب له اشكالات كبيرة، حتى أنني، على رغم الصداقة المتينة التي تجمعنا انتقدت موقفه هذا في العديد من مقالاتي، وكان يضيق الخناق على الموسيقى العربية سواء في المعهد العربي أو في المعهد العالي، ولا يترك لها إلا هامشاً ضيقاً جداً، لدرجة أنه كان هناك في المعهد العالي قسم للغناء الأوبرا لي، ولم يكن فيه قسم للغناء الشرقي. حظي صلحي الوادي باحترام المسؤولين في سورية ورعايتهم، وخصوصاً الدكتورة نجاح العطار خلال تسلمها وزارة الثقافة مدة ربع قرن، إذ قدمت له كل دعم ورعاية، لكن الأمر تغير بعد أن تركت العطار الوزارة، وما أن حلت محلها السيدة مها قنوت، حتى بدأت حرباً شعواء على صلحي الوادي واستخدمت في حربها المعادين له، ولم يكن هناك سبب واضح لهذه الحرب التي استغلها البعض للنيل من صلحي الوادي، فكان أن عطلت المشاريع الموسيقية التي كان ينوي القيام بها، ومنها تقديم أوبرا زنوبيا، كما سببت له ضغطاً نفسياً كبيراً انتهى بانفجار دماغي ادى الى الشلل. وفي أحد أيام نيسان ابريل 2002 كان يقود الفرقة السيمفونية في حفلة في قصر المؤتمرات، وبينما كان يقدم الكونشيرتو الثالث لبيتهوفن بدأ يفقد السيطرة على حركة يديه، وترنح وسقط عن المسرح في حضور الدكتورة نجوى قصاب حسن التي كانت تولت وزارة الثقافة قبل أيام من الحفلة، ونقل الى مستشفى الشامي في دمشق فأمضى فيه فترة، ثم نقل الى منزله بعد أن ضعف الأمل بشفائه. وتوارى صلحي الوادي ولم يظهر علنياً إلا مرة وحيدة حينما قرر وزير الثقافة الدكتور محمود السيد اطلاق اسمه على المعهد العربي للموسيقى الذي تولى ادارته أربعين سنة، وحضر صلحي الوادي ليشهد ازاحة الستار عن اللوحة التي حملت اسمه على باب المعهد، وكان جالساً على كرسي متحرك. بعد ذلك تدهورت حالته الصحية الى أن رحل في الأول من تشرين الأول اكتوبر الجاري. ولا يفوتني أن أذكر أن صلحي الوادي كان اضافة الى كل ما ذكرته مؤلفاً موسيقياً وضع الكثير من الأعمال بقوالب الموسيقى الغربية، كما وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام السينمائية والمسرحيات. ونال العديد من الأوسمة . كاتب ومؤرخ موسيقي سوري