ضمن فعاليات افتتاح قناة السويس عام 1869 افتتح الخديوي إسماعيل دار الأوبرا المصرية مع ضيوفه الأجانب وعلى رأسهم الإمبراطورة الفرنسية أوجيني، زوجة الإمبراطور نابوليون الثالث. وكان من المقرر افتتاحها بأوبرا جديدة لحنها الموسيقار الإيطالي الأشهر فيردي. لكن الأوبرا المذكورة لم تكتمل بالوقت المحدد فقدمت دار الأوبرا لفيردي أوبراه المعروفة ريغوليتّو Rigoletto. أما أوبرا عايدة فقدمت للمرة الأولى على مسرح دار الأوبرا عام 1871. بعد هذا التاريخ بمئة عام، أي في 1971، احترقت دار الأوبرا لأسباب غير معروفة مع شبهات كثيرة حول حرقها تدور حولها للآن. وظلت مصر محرومة من دار أوبرا لغاية 1988 وبالتحديد لغاية العاشر من الشهر العاشر في الساعة العاشرة صباحاً من عام 1988 حين تسلم المصريون مفاتيح الأوبرا الجديدة من بنّائيها اليابانيين. وقد تم افتتاحها في مساء هذا اليوم باحتفالية ضخمة. وكانت عام 1988 أولى سنوات استقراري في مصر. وعام 1989 أسستُ في دار الأوبرا بناء على طلب رئيسها رتيبة الحفني الفرقة القومية العربية للموسيقى وكورال أطفال الأوبرا وقد تعاقب على رئاسة دار الأوبرا لغاية الآن سبعة رؤساء أولهم رتيبة الحفني تلاها وبالتدريج طارق علي حسن، ناصر الأنصاري، مصطفى ناجي، سمير فرج، عبدالمنعم كامل، وأخيراً الرئيسة الحالية إيناس عبدالدايم. وقد قامت السياسة الموسيقية للأوبرا منذ تأسيسها على التوازن بين الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية والعربية الكلاسيكية. فكان فيها أوركسترا سمفونية (مع عدد لا بأس به من العازفين الوافدين من أوروبا واليابان)، وقد شتته تقريباً احتراق دار الأوبرا القديمة وحرمه من مسرح كبير يقدم عليه عروضه، فكان يكتفي بتقديم عروضه على مسرح الجمهورية الصغير، فكان المكان الجديد جامعاً لجميع الفرق الموسيقية المصرية وكان أكثر المتضررين باحتراق دار الأوبرا القديمة فرقتي الأوبرا والباليه اللتين تتطلبان مسرحاً كبيراً عامراً بالإمكانات التقنية الكاملة لخدمة العروض، وقد انضمت هاتان الفرقتان إلى الأوركسترا السمفونية في المكان الجديد الذي يتمتع مسرحه بتقنيات مسرحية هائلة. وكان على رأس فرقة الباليه الكلاسيكية راقص الباليه المصري العالمي عبدالمنعم كامل. وإلى جانب فرق الموسيقى الأوروبية جاءت فرقة الموسيقى العربية التي أسسها المايسترو الرائد عبدالحليم نويرة والتي أصبحت تحمل اسمه وقد تأسست عام 1967 بقرار من الزعيم جمال عبدالناصر كرد ثقافي حضاري على النكسة العسكرية. وقد أسستُ شخصياً في دار الأوبرا فرقتين: الفرقة القومية العربية للموسيقى وكورال أطفال الأوبرا. الفرقة الأولى (القومية) حازت بعد أربعين يوماً من تأسيسها على الميدالية الذهبية والفضية في مهرجان بابل في العراق بين 60 فرقة من 45 بلداً. أما كورال الأطفال المستمر لغاية الآن فقد لعب دوراً مهماً في الحياة الموسيقية في مصر فقد تخرّج منه أهم الأصوات الموجودة على الساحة الغنائية المصرية حالياً وأذكر منهم: ريهام عبدالحكيم، شيرين عبدالوهاب، أحمد سعد، سومه والعديد من نجوم الأوبرا. أذكر على سبيل المثال لا الحصر: مي فاروق وآيات فاروق وسارة ومي حسن وغيرهن. وفي دار الأوبرا الآن فرق عدة تقدم التراث الغنائي العربي وهي الفرقة القومية، كورال الأطفال، فرقة عبدالحليم نويره، فرقة التراث العربي وفرقة الإنشاد الديني. وإذا تكلمنا عن الرؤساء الذين توالوا على رئاسة دار الأوبرا، فلا بد من التنويه إلى أن اثنين منهم لم يكن لهما علاقة بالموسيقى، فواحد منهم وهو ناصر الأنصاري كان لواء شرطة والثاني سمير فرج كان لواء في الجيش. ومن دواعي الاستعجاب والاستغراب أن هذين اللواءين كانا أحسن من أدار هذا الصرح الموسيقي الكبير لأنهما كانا يملكان رؤية إدارية واضحة ومتوازنة لجميع الفنون التي تعرضها دار الأوبرا. أما المدراء الموسيقيون لغاية إيناس عبدالدايم، فكانت رؤيتهم الإدارية تتأثر بحسب اختصاص كل منهم. ففي عهد مصطفى ناجي كان الاهتمام أكثر بالأوركسترا السمفونية والحفلات السمفونية كونه قائد أوركسترا. أما عبد المنعم كامل راقص الباليه العالمي ومدير فرقة الباليه في دار الأوبرا فقد تميّز باهتمامه الكبير بفن الباليه وحفلاته على حساب الفنون الأخرى. إلى أن جاء العهد الجديد بإدارة إيناس عبدالدايم، التي ردت الاعتبار إلى الفنون الأخرى والتوازن العادل بينها وبالذات الموسيقى العربية. فعلى رغم أنها عازفة الفلوت الأولى في العالم العربي ومديرة الأوركسترا السمفونية، فالمعروف عنها عشقها للموسيقى العربية التي تربت عليها قبل بدء دراستها للموسيقى الغربية ولم تفقد عشقها لها حتى الآن. إن أهم ما يميز النشاط الفني في دار الأوبرا هو أنه يرتكز على ما نسميه صناعة الثقافة. الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية يرتكز نشاطها على معهد الكونسرفاتوار الذي يخرّج سنوياً عشرات الموسيقيين الذين تحتاجهم الأوركسترا السمفونية وأوركسترا الأوبرا المتخصصة في تقديم موسيقى الباليه والأوبرات والأوبريتات والموسيقى الكلاسيكية الخفيفة، بينما تتخصص الأوركسترا السمفونية بتقديم الموسيقى السمفونية بأشكالها المختلفة. أما بالنسبة إلى نشاط الموسيقى العربية فإن دار الأوبرا تعتمد على خريجي المعاهد الموسيقية وعلى رأسها المعهد العالي للموسيقى العربية. كذلك فإن فرقة الباليه تعتمد على الراقصين خريجي المعهد العالي للباليه. لذلك نرى أن صناعة الموسيقى والفنون مدعومة بوجود المعاهد التي تؤمن استمرار مدّ هذه الفرقة بالموسيقيين والفنانين الذين يؤمّنون بدورهم استمرارية العطاء الفني والثقافي في هذا الصرح الثقافي الفني الكبير.