الثفافات والحضارات السابقة على الإسلام، أو تلك التي استمرت وتعايشت مع انتشار الإسلام لم تضمحل. ولم تبق ايضاً معزولة، بل تفاعلت معه من داخل حركة الأسلمة نفسها الدخول في الإسلام، أو من خلال تبادل التأثيرات في شتى مجالات الحياة: في اللغة والعادات وأنماط التفكير، وأنماط الزي والعيش. والنتيجة ان خصوصيات وموارث ثقافية وربما طبائع استمرت تعيش في الذاكرة الجماعية والخبرات التاريخية. الأمر الذي يسوّغ الحديث عن فرضية تقول ن ثمة كفايات وقابليات واستجابات متنوعة على تحديات واحدة، وبالتالي فإن الاحتمالات المستقبلية ليست واحدة امام الشعوب الإسلامية والجماعات الإسلامية وأحزابها السياسية المنتشرة على مستوى الأقاليم والدول. وفيما نقرأ الإسلام نصوصاً تأسيسية بالاعتماد على نص الوحي ونصوص السنّة المعتمدة، أي المتفق على صحتها عند معظم المذاهب الإسلامية، لا بد من القول، إن السلام واحد كنواة، أي كدين. لكن لا بد من الإضافة ايضاً أن الإسلام التاريخي ليس واحداً. ونعني بالإسلام التاريخي مختلف النصوص الإسلامية التي أنتجت في التاريخ، أي أنتجت في مسار نشأة علوم الإسلام، كعلم أصول الدين العقائد وعلم الكلام وعلم أصول الفقه، وطرائفه وأساليب الاجتهاد فيه ثم أحكامه. فهذا التراث الإسلامي ليس واحداً. إنه متعدد، وتعدده ليس ناتجاً من تعدد الطرائق المنهجية والمنطقية والفلسفية السائدة في عصر ما فحسب، كما كان حال التعدد بين أشعرية ومعتزلة، أو بين الغزالي وابن رشد، أو بين ابن خلدون وابن تيمية، بل هو ناتج ايضاً وفي شكل أساسي من حال الاختلاف بين تجارب الشعوب والأقوام في التاريخ، ولا سيما في ما يخص تجاربها في نشأة الدول وخصائص اجتماعياتها السياسية، أي بالتحديد ما كان ابن خلدون سمّاه بپ"طبائع العمران"، ويمكن ان نسميه اليوم بپ"خصائص الشعوب"أو سمات الإثنيات والأقوام، وبالمعنى الذي أدخلته علوم التاريخ الجديد والإتنولوجيا والأنتروبولوجيا الى مجال معرفة الإنسان والجماعات. نشدد على هذه الفرضية لمناسبة ما سمعنا اخيراً عن نجاحات حزب العدالة والتنمية الحزب الإسلامي التركي في الانتخابات البرلمانية التركية وعن نجاح زعيمه السيد عبدالله غل في انتخابات رئاسة جمهورية تركيا. وخلاصة ما نسمعه ونقرأه ان رأياً يقول بقياس العمل الإسلامي السياسي العربي على العمل السياسي الإسلامي التركي. وبالتالي بإمكانية المزاوجة بين الديموقراطية والإسلام السياسي في معزل عن أي شرط ثقافي حضاري أو تاريخي. كما ان مقارنة تجرى على الألسن والأقلام توضح ان التجربة التركية يمكن ان تكون قدوة ونموذجاً للإسلام السياسي العربي. قد تملك تلك المقارنة"المتمناة أو المرجوة"حجة وجاذبية. حجة للإسلاميين العرب، لا سيما للأحزاب الإسلامية العربية التي تخوض انتخابات دستورية في بلدانها كالمغرب ومصر وفلسطين ولبنان، جاذبية لجهة صلاحية الواقعة كنموذج يمكن تحقيقه في منظور الباحثين والدارسين وقطاع من المثقفين العرب. والحقيقة ان الاحتجاج بالتجربة التركية وجاذبية الحدث كرهان او احتمال قد يكونان امرين مشروعين ويبعثان على التفاؤل من زاوية الأمنيات. لكن تاريخ الشعوب كما قلنا، لا يسير على خط واحد وقانون واحد ودينامية أحادية. فثمة كما قلنا تجارب تاريخية مختلفة وثقافات مختلفة، وأنماط من التفكير والمناهج والسياسات التي من شأنها ان تتراكم على مدى مراحل تاريخية فتولّد في الذاكرة الجماعية واللاوعي الجمعي انماطاً مختلفة او متميزة من العقلية والذهنية والسلوك. وفي هذا المعنى، إذا كان انتصار حزب إسلامي في تركيا العلمانية هو حدث"متميز"، فإن تميزه يتطلب بحثاً لإدراك أسباب هذا التميز، وتحديد خلفياته المتراكمة التي أوصلت إليه. بعض الباحثين العرب النابهين، أثار بعضاً من هذه الأسباب التي تميز إسلامية حزب العدالة عن إسلامية الأحزاب العربية. فأشار الى الخلفية العلمانية التأسيسية للجمهورية التركية والى اندماج حزب العدالة وبرامجه في قلب هذه الثقافة. والحق ان المقصود بپ"الاندماج الثقافي"ليس القول إن حزب العدالة هو حزب علماني، بل المقصود هو احترام الحزب الإسلامي التركي مرحلة التأسيس العلماني لتركيا. تأسيس الدولة الأمة، أي احترام الإجماع الوطني المتمثل بالميثاق القومي التركي المؤسس للدولة. بل ان الحزب الإسلامي التركي هو لون من ألوان هذا الميثاق، وجزء ثقافي ? سياسي منه، وليس رداً عليه، أو انتقاصاً منه أو تجاوزاً عليه، انه أشبه بالأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا. هذه السمة، طالما افتقدتها الأحزاب العربية، القومية والإسلامية، ولا سيما الأخيرة التي ورثت الأولى، والتي غالباً ما كانت تغلّب المشروع الذاتي والبرامج الذاتية: بدءاً من التحسّر على زوال الخلافة الى المطالبة بها في أول الأمر، الى المطالبة بتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية بعد ذلك، الى تأسيس نوع من الحزبية الإسلامية العالمية المتجاوزة لقطرياتها، أي دولها الوطنية ومواثيقها التأسيسية. على ان هذه السمة ليست هي علامة التمايز التركية الوحيدة عن الحزبية الإسلامية العربية. وقد تكون ايضاً، من وجهة نظر أخرى، قابلة للنقاش بحجة ان بعض الحركات الإسلامية العربية طوّر أفكاره باتجاه التأقلم والتكيف مع الوطنيات القائمة. مع ذلك، تبقى السمة التركية مالكة عناصر تمايز أقوى وأغلب، وتستمد قوتها وغلبتها من خبرة تاريخية أعمق وأشمل، تضرب بجذورها الى ما قبل علمانية مصطفى كمال وتحريره تركيا وتجنيبها كأس سيفر Sevre المرادفة عربياً لسايكس - بيكو. لذلك، فإن الأسئلة التي يطرحها بعض الباحثين العرب بصيغة هل يحتاج العرب الى مصطفى كمال؟ أو بصيغة: هل العلمانية ضرورة للعرب؟ هي في حقيقة الأمر أسئلة مشروعة. لكن سؤالاً أوجب وأولى، ينبغي ان يُطرح قبل هذا: لماذا ظهر مصطفى كمال في تركيا ولم يظهر عند العرب؟ وكيف يحصل ان حزباً إسلامياً تركياً يعلن احترامه للنظام العلماني، في حين يمعن الإسلاميون العرب في هجاء العلمانية، ولا يتورّع مفكر قومي عربي ان يقترح مسايراً الإسلاميين حذف المصطلح من القاموس العربي كما هي حال محمد عابد الجابري؟ في تقديري، ان التجربة العثمانية الطويلة الأمد في التاريخ الإسلامي، والتي غالباً ما أساء فهمها المؤرخون العرب، هي تجربة غنية بالخبرات التاريخية والدروس والمعاني والدلالات، بل لعلها التجربة الأغنى في حقل معرفة أسس الدولة وثقافتها وإدارتها وسياستها في تاريخ الإسلام والمسلمين، وعلى رغم كل السلبيات التي قد ترافق عهود دولة سلطانية كبرى استمرت نحو ستمئة سنة في مجتمعات تقوم بناها الاقتصادية والاجتماعية على معطى العصبيات. الأهم في دلالات هذه التجربة، والتي قادتني إليها دراساتي السابقة للمرحلة العثمانية في التاريخ العربي وهي دراسات جداً متواضعة إذا ما قيست بدراسات غيري من المتخصصين الكبار، ولا سيما الأتراك منهم هو ما يمكن ان أستخلصه من احتمالات وممكنات التأثير في الثقافة السياسية التركية المعاصرة، أي في تكوينها التاريخي، كما في صيرورتها المستقبلية. نكتفي هنا بالتذكير بمحطتين أساسيتين من التاريخ العثماني. الأولى: ان نظام الحكم والإدارة العثماني، لم يكن قائماً أو مستمداً من الشريعة الإسلامية وحدها. فثمة أربعة مصادر أو مرجعيات كونت أسس ذلك النظام. أولاً: معطيات الأعراف التي توفرها المجتمعات القائمة. ذلك ان تفاعل الهيئة الحاكمة مع هذه المجتمعات أدى الى استصدار جملة من القوانين الوضعية التي سمّيت ب"قانون نانة". ولعل أبرز السلاطين الذين تركوا اثراً في هذا المجال التأسيسي الذي يمكن ان نعتبره مجال القانون المدني، هما السلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني. ثانياً: المعطيات البيزنطية التي هي مزيج من تأثيرات يونانية ورومانية. ثالثاً: مصادر الإدارة الفارسية التي ورثها بنو عثمان عن أسلافهم سلاجقة فارس وسلاجقة الروم. رابعاً: مصدر الشريعة الإسلامية، وكان حقلها الأساسي في التطبيق مجال الإفتاء والقضاء والتعليم... الثانية: مرحلة الإصلاح والتنظيمات العثمانية، فلعل أكثر المراحل تأثيراً في النخبة التركية التي ساهمت في تكوين تركيا الحديثة العلمانية لاحقاً هي مرحلة التنظيمات. وذلك لما تركته هذه الأخيرة لدى أجيال متعاقبة من السياسيين والمثقفين والقادة والكوادر من آثار ارتبطت بمفاهيم التحديث وثقافته في كل المجالات العسكرية والاقتصادية والتربوية والدستورية والقانونية، ولا سيما في المجال الأخير المجال الدستوري والقانوني. لا شك في ان قسماً من النخبة العربية أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين واكب أو شارك أو تأثر بفلسفة التنظيمات وثقافتها. إلا ان هذا القسم العربي الذي يجوز تسميته ب"الجيل الدستوري"ما لبث ان تقلص حضوره وتراجع أمام هجوم مدّين طاغيين، كانا متنافسين ومتصارعين. ولكن كانا متكافلين موضوعياً في مهمة القضاء على الجيل العربي الدستوري المحسوب على جيل التنظيمات العثمانية او المكمّل له لناحية المنهج والنظرية. المدّان المقصودان كانا المد القومي العربي والمد الإسلامي. هذا في حين ان نخب التنظيمات في تركيا وجيلها اللاحق لم تلاق هذا المصير المشؤوم. ذلك ان بطل القومية التركية، مصطفى كمال ورفاقه ومؤيديه ومريديه، كانوا جزءاً مكمّلاً لجيل التنظيمات، جزءاً من فلسفتها المرتكزة قبل كل شيء على اعتبار الحكم حكماً مدنياً دستورياً وعلى اعتبار ان حداً فاصلاً لا بد من ان يقوم صراحة او ضمناً بين الدين والسياسة، وبين الخلافة والسلطنة، وبين سلطة الشريعة وسلطة المذهب من جهة وسلطة الحكم المدني من جهة أخرى. وعليه، يمكن ان نقول ان وثيقة انقرة التي اقرها المجلس الوطني التركي في العام 1922 في عنوان"التفريق بين الخلافة والسلطنة"والتي بررت وشرعنت قيام الدولة القومية التركية الحديثة الدولة/ الأمة ما هي إلا التعبير المكمّل لمسار التنظيمات معطوفاً على تراكم بطيء ولكن عميق، من إنجازات القوانين الوضعية العثمانية. هذا ولنتذكر ان هذه الوثيقة المذكورة لم تشكل قطيعة مع الدين، بل شكلت قطيعة مع التقليد السائد في التاريخ الإسلامي: وهو استقواء السياسة بالدين، واستقواء السلطنة بالخلافة. قام منهج المعالجة في الوثيقة على نقد تاريخي وفقهي صارم وموثق، يستهدف في شكل أساسي كشف الخطاب الذي يحجب عملية الاستيلاء والتغلب في سياسة الخلافة أو السلطنة التي تحولت الى ملك. وكان ذلك قبل ان يصدر مصطفى كمال قراره بإلغاء الخلافة في العام 1924 ثم قراراته العلمانية المتلاحقة بعد ذلك راجع نص الوثيقة والخطابات والمواقف المتعلقة بها في كتاب وجيه كوثراني"الدولة والخلافة في الخطاب العربي، إبان الثورة الكمالية في تركيا"، بيروت ? دار الطليعة. عربياً، كان للوثيقة صداها في القاهرة، حيث نشرت"الأهرام"و"الهلال"ترجمتها العربية في العام 1924، وألّف علي عبدالرازق من وحيها ومن منطلقها كتابه الشهير"الإسلام وأصول الحكم"الذي صدر في العام 1925. هذا على ان الفارق كان كبيراً بين الصوت والصدى، بين الاستقبال التركي للوثيقة من جهة، وبين الاستقبال العربي لكتاب عبدالرازق الذي يحمل الموقف نفسه من مسألة الخلافة من جهة أخرى. ثمة قبول هناك في تركيا وإن أثار بعض الالتباس. وثمة رفض هنا في بلاد العرب حيث أكثر العرب ومسلمو الهند آنذاك من الاحتجاجات، وحيث اكثر علماء مصر وسياسيوها من إدانة علي عبد الرازق ومن إقامة مؤتمرات الخلافة، ولكن لا عادت الخلافة ولا استقام أمر قيام الدولة العربية الحديثة. لذلك، فإن الأسئلة التي تدور اليوم حول"حاجتنا الى مصطفى كمال"أو عن"حاجتنا الى العلمانية في بلاد العرب"، وكذلك عن إمكان قياس العمل السياسي الإسلامي العربي على النموذج التركي، تثير في الذهن سؤالاً أسبق وأوجب: أين هي شروط الممكن؟ وهل ضاعت الفرصة التاريخية؟ * مؤرخ لبناني