تحتل تركيا أهمية كبيرة للشرق والغرب على حد سواء، فهي تقع جغرافيًا وحضاريًا على حافة مناطق تحفل بعدم استقرار سياسي واجتماعي لأسباب تاريخية ولقد ورثت جمهورية تركيا السلطنة العثمانية تلك الإمبراطورية ذات المكانة الخاصة فى تاريخ الشرق والغرب والعالم، وما حدث ويحدث بالجمهورية التركية يرجع فى قسم كبير منه إلى ما حدث بالسلطة على الأقل في القرن الأخير من عمرها. يؤرخ كتاب تركيا عن مستقبل للكاتب ياسر أحمد حسن الصادر عن سلسلة العلوم الاجتماعية بالهيئة المصرية العامة للكتاب لنشأة السلطة العثمانية وتوسعها حتى أصبحت امبراطورية كبيرة بقوة السلاح ثم لانهيارها وأسباب هذا الانهيار والنتائج التى ترتبت على ذلك والتي كان من ضمنها ظهور القومية التركية والجمهورية التركية تحت زعامة مصطفى كامل أتاتورك. وقد اعتمدت الجمهورية الجديدة على قيام النخبة ذات التعليم الغربي بنقل قيمتها وأنماط سلوكها إلى البسطاء من الناس فى شتى أنحاء الدولة، كما اتخذ مصطفى كمال أتاتورك حزمة من المبادئ المستندة إلى مبدأ العلمانية والفصل بشدة بين سلطة الدين والدولة كسبيل لتحديث المجتمع التركي وقد سميت هذه المبادئ كأنه خروج على الدولة فيما يوجب مقابلته بشدة كما أخذت المؤسسة العسكرية دورًا كبيرًا فى الحفاظ على هذه المبادئ وأصبح لها الحق فى التدخل فى الحياة السياسية التركية.وما يوضح زيادة نفوذ وسيطرة المؤسسة العسكرية فى تركيا على الحياة السياسية التركية قيام مجموعة من الضباط متوسطي الرتب بانقلاب عسكري ضد مندريس زعيم الحزب الديمقراطي لأنه أجرى صلحًا مع بعض مظاهر الإسلام عند توليه السلطة وأعاد رفع الأذان باللغة العربية وألغى الحظر على بعض ا لبرامج الدينية وسمح ببناء مساجد جديدة وترميم القديم منها الأمر الذي اعتبره ضباط الجيش هدمًا للأسس الكمالية والعلمانية التي نشأ عليها وتم الحكم بالإعدام على مندريس. يصور الكتاب الحياة في تركيا من الناحية السياسية الاجتماعية ويرسم ملامح التغيير التي شهدتها وما زالت تشهدها البلاد فضلا عن تأثرها بالتغييرات والتحولات التي اجتاحت العالم، والعقود الأخيرة من القرن العشرين خاصة وأن تركيا تقع فى قلب منطقة الشرق الأوسط بؤرة الصراعات والأحداث.يشير الكتاب إلى الكمالية التى اعتمدت فلسفة للجمهورية التركية والتى أطلقت حالة نقاش ممتدة فى المجتمع وداخل دوائر السلطة استمرت لعقود طويلة حتى بعد رحيل مصطفى كمال أتاتورك كما يشير إلى تلك الفلسفة التى لا تزال محل خلاف إلى اليوم ويستمر النقاش حولها وحول إسهامات مصطفى كمال اتاتروك فى حياة تركيا من قبل المؤمنين بجدارة أتاتورك وأهليته لتركيا أو من جانب القائلين بأن هذه الكمالية لم تعد صالحة اليوم. في رأي الكاتب أن دور الجيش فى الحياة السياسية التركية يظل سؤالاً تصعب الإجابة عليه ربما بسبب المكانة المتميزة التى احتلتها العساكر الانكشارية فى العهد العثماني واللتي احتلتها كذلك المؤسسة العسكرية فى عهد الجمهورية من عام 1923 ويشير الكتاب إلى أنه مثلما خرجت القيادات العسكرية والإدارية والسياسية للدولة فى عصر السلطنة الأول والأوسط بين صفوف الجيش وقادته البارزين كذلك فإن انفتاح ضباط الجيش العثماني الجديد على التحديث حفظ له فى نهاية الأمر مكانة متميزة فى المجتمع والدولة، ولم يكن من قبيل المصادفات أن يتصدى ضباط من المهمة تحرير الوطن التركي من الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولى. هل الحياة فى تحولات مستمرة دون توقف، هو قدر الأتراك من السلطنة العثمانية إلى الجمهورية التركية؟.. ومن حكم الحزب الواحد فى العهد الأول للجمهورية إلى التعددية السياسية فى عام 1945؟ ومن علمانية ضرب الشعب الجمهوري المتشدد إلى التصالح مع الدين على يد مندريس فى عقد الخمسانيات؟ ومن سيطرة الدولة على كل شىء إلى انفتاح أو زال فى كل شيء؟.. ومن ضرب الرفاة إلى ضرب العدالة والتنمية ؟ ومن هذا الأخير إلى مرسى جديد ربما؟.بحسب قول أحد السياسيين المخضرمين الأتراك: عاشت تركيا طيلة عمرها كعربة تسير على طريق وعرة مليئة بالمنتخبات والأهوال فى مناخ ملبدًا بالغيوم وأمامها كتل من الحجر كان عليها تفاديها طلبًا للسلامة معتمدة طيلة مسيرها على مهارة سائق .. لكن وربما منذ فترة لم يعد بتركيا أي سائقين ومهرة ومن ثم يتعين عليها تجعيد الطريق الذي تسير عليه. يرى مؤلف الكتاب أن الجيش التركي قد اتخذ قرارًا بتجديد وجهته العربية التركية دون استشارة ركابها وجلس بجوار سائقها لإجباره على المضي نحو هذه الوجهة، وقام خلال مسيرة عربة تركيا بتبديل السائقين لضمان سلامة الرحلة وفق ما أراه صالحاً لركابها، وعندما خالفه أحد الركاب لم يتردد عن إيقاف الرحلة ليقذف بهذا الراكب من خارج القرية إلى مؤخرتها. يقول الكاتب ياسر أحمد حسن مؤلف كتاب تركيا البحث عن مستقبل: اليوم قاربت الرحلة على الانتهاء فإن الأحوال والمواقع قد تغيرت وهنا تغيرت فهناك من بين الركاب من يريد أن تقذف بمن يوجه مسيرة العربة إلى خارجها وهناك ممن يجلس فى صفوفها الخلفية وهناك من يريد الإبقاء على موجة القرية لمساعدته فى يوم ما على العودة لمقودها. فى تركيا اليوم ثمة فورة فى التطلعات لا ترتبط بالماء فى أي شيء لم يعد الجيل الجديد ينظر لحظر تقسيم البلاد مثلما نظر الجيل القديم قبله الذى أتاح تكوينه النفسي التقدم على الجميع ولم تعد الوحدة الوطنية يتم فهمها بالطريقة ذاتها التي كانت بل لم تعد تحظى بمرتبة تفوق الاهتمام بالمبادئ الديمقراطية فى ثقافة الأجيال الجديدة وثقافة الدولة وثقافة العسكر ونخبة الجمهورية. يخلص الكاتب فى خاتمة الكتاب إلى أن كافة الرهانات القديمة قد استفدت وسيصبح الكل خاسرا إذا مضت تركيا بالطريقة ذاتها التى مضت بها لثمانين عاما من عمرها.