قد يبدو ضرباً من البلاهة تناول يومياتنا كسكان للعاصمة اللبنانية بيروت في الوقت الذي يقف البلد برمته عند مفترقات مصيرية ليس أقلها أهمية الاستحقاق الرئاسي المقبل. وقد يكون ضرباً من الرفاهية المطلقة النظر في سبل العيش البديهية لسكان مدينة اعتادوا تصريف أمور حياتهم بدلاً من عيشها فعلياً في الوقت الذي تتربص بمصائرهم تفجيرات قد تباغتهم عند أي إشارة ضوئية أو زحمة سير. وإذا تجاهلنا حقيقة أن الرفاه الاجتماعي والسعي إليه ليس عيباً أو شتيمة بحق صاحبه كما يتم إشعارنا كل يوم، وإنما هو عادة ما يكون ركيزة البرامج الحزبية والحركات المطلبية وهدف الحكومات المعلن على الأقل، إذا تجاهلنا ذلك كله يبقى أن الذهاب إلى العمل والعودة إلى البيت وركن السيارة وشراء الحاجيات لا يعد بحد ذاته رفاهية أو استثناء في غير بيروت. ذاك أن كل ما يجعل الحياة حياة على المستوى الفردي في هذه المدينة بدأ يتضاءل ويتناقص كل يوم. ما عاد الأمر مقتصراً على تجاذبات سياسية بين فريقي 8 و14 آذار، وإنما هو قصة ضيق العيش والسبل المؤدية إليه وسط مربعات أمنية تحددها خطوط حمر يجب عدم الاقتراب منها. وجاءت هالة القدسية التي أضيفت على بعض تلك الخطوط لتفرض على كل من يسكن المدينة أن يتمتع بمهارة بهلوانات السيرك، ليتمكن من القفز بين المربعات وفوقها وتحتها من دون المساس بحدودها لئلا تُطبِق عليه. لحسن حظي أو لسوئه ربما أنني أعمل في الوسط التجاري وأقطن قرب مديرية الأمن الداخلي في محلة الأشرفية. مرد حسن الحظ هو أن الأمن مستتب في كلا الموقعين ولا خوف من مفاجآت غير سارة على هذا الصعيد. أما سوءه ففي الانتقال اليومي بين ثكنتين عسكريتين متنازع على شرعية كل منهما بحسب الجهة التي تضرب الطوق الأمني. فتلك معركة يومية لا نخرج منها دوماً سالمين، ويكفينا أحياناً أنها قد تمر بأقل أضرار ممكنة. في وسط بيروت المغلق في وجه المدنيين منذ ما يقارب السنة، يشرف شباب"حزب الله"وحركة"أمل"على فرض النظام. الشوارع مغلقة والمحال مقفلة والمنطقة تحولت حصناً منيعاً يصد كل من ليس له عمل. المنافذ الوحيدة إلى تلك الشوارع هي بضع نقاط"غير عسكرية"يتناوب عليها مراهقون يحمل بعضهم هواتف لاسلكية، يفتشون الحقائب والأكياس، ويمنعون دخول السيارات غير المرخص لها، بعدما كانوا في مرحلة سابقة يطلبون الأوراق الثبوتية. الأمن مستتب في هذا المربع لدرجة أن نواب"المعارضة"يحضرون بسياراتهم إلى مكاتبهم، من دون أي مواكب وهمية أو غير وهمية، يتحدثون عبر هواتفهم في الشارع وقد يتناولون غداء سريعاً في المقهى المجاور للبرلمان. وإذا كان الامتثال لهذا النظام مرهوناً بأيام العمل وساعات الدوام، يبقى أن السكن في ظروف مشابهة مسألة أخرى. ففي الجهة المقابلة، في الأشرفية، يشرف عناصر الأمن الداخلي والدرك والاستخبارات على فرض النظام بدورهم. الشوارع مغلقة، والدخول إلى الأحياء والأزقة المحاذية لمبنى قوى الأمن ممنوع لغير حاملي التراخيص من السكان. لا اختلاف من حيث الشكل سوى أنه في هذه الحالة مربع أمني رسمي، تابع لمؤسسة حكومية لا يشكك أحد في"شرعيته"إلا هؤلاء المعتصمون في خيمهم وسط المدينة. يرتبط المربعان في ما بينهما بطريق الشام الذي لا يستغرق عبوره أكثر من 20 دقيقة سيراً وأكثر من 40 في السيارة أحياناً. الحي السكني فرنكوفوني بامتياز. فهو يقع وسط دائرة ترسمها الجامعة اليسوعية ومجمع"دو شايلا"الرياضي ومدرسة الليسيه الفرنسية ومستشفى أوتيل ديو. المنطقة قبلة الطبقة الوسطى أو ما بقي منها، وغالبية سكانها هم من موظفي تلك المؤسسات والأساتذة المحليين أو الفرنسيين. شيء من أناقة أفلام ال أبيض والأسود تسود العلاقات الاجتماعية بين الجيران. الرجل السبعيني الذي يسكن في الطابق الرابع، يمسك الباب لياقة عند مرور سيدة، وفي أيام الشتاء عندما يعتمر قبعته الجوخ يرفعها قليلاً احتراماً للجارة وإن كانت بعمر حفيدته. أحياناً يحدث أن يقرأ السكان إعلاناً كتب بخط اليد يعلن عن دروس خصوصية في البيانو أو الرياضيات، مع أسعار مخفضة لتلامذة الليسيه. ومساء، بعد الغروب بقليل يعج الرصيف الممتد على طول حائط المدرسة بشبان وبنات وخادمات ينزهون الكلاب. صاحبة دكان"المقدسي"ترد على الهاتف بما يشبه الهمس وترسل الطلبات إلى المنازل مع عبده الشاب المصري الذي صار فرداً من عائلات أفراد الحي. هي مشاهد من حياة عادية وألفة باتت نادرة الحدوث في الأحياء البيروتية، لكنها استبدلت بألفة من نوع آخر، تلك التي تجمعنا بحراسنا سواء كانوا نظاميين من الدرك أو من شباب"الحزب"وپ"الحركة". ذات صباح استفاق السكان على غرامات مالية علقت على زجاج سياراتهم لأنهم ركنوها في أماكن يمنع الوقوف فيها، وهي تحت الأبنية التي يسكنون فيها وعلى طرفي الشوارع. القرار اتخذ في الثالثة صباحاً ودخل حيز التنفيذ في السادسة. ومن صادف أنه كان نائماً فيما عين الأمن ساهرة، عليه ان يدفع غرامة! ذلك الصباح اكتظ مقر قوى الأمن بالجيران يطالبون إعفاءهم من الغرامات واستخراج تراخيص ليوقفوا سياراتهم تحت منازلهم. والضيوف؟ سألت سيدة. ابني طالب يأتي أصدقاؤه مساء للدراسة فهل يحتاجون أيضاً الى تراخيص؟ لم يتوقع رجل الأمن حالة من هذا النوع. فهو وزملاؤه يؤمون الحي للعمل. عائلاتهم وحيواتهم في أماكن أخرى ومناطق بعيدة. وإن صادف أن ناموا في مقرهم فلدواعي العمل والمناوبة. لم يخطر في بالهم أنه على مقربة منهم هناك أشخاص يحاولون الاستمرار بروتينهم اليومي، لا بل يجاهدون في سبيله. أجاب بلا مبالاة أن من الأسهل أن يذهب ابنها للمذاكرة لدى الأصدقاء بدل استقبالهم عنده. لم يعرف أحد في البداية سبب تلك الإجراءات التي تجاوز تطبيقها عاماً كاملاً. بدأ الأمر بشباب يرتدون ثياباً مدنية، طلبوا من سكان كل شقة أن يملأوا استمارة فيها معلومات شخصية. الاسم، الشهرة، اسم المبنى، الطابق، ثم توقيع صاحب العلاقة. من أنتم؟ تلعثموا. نحن فرع المعلومات قالوا بعد برهة. هل معكم بطاقات؟ كيف نتأكد من أنكم لستم مجرد مسلحين. بدا واضحاً أن أحداً لم يسألهم سؤالاً من هذا النوع من قبل. فالدهشة التي ظهرت على وجوههم كانت كفيلة بالتأكيد أنهم ما زعموه. السكان من جهتهم احتاروا. اعتقد بعضهم بأن مرد الإجراءات الأمنية هو سكن أحد العاملين في لجنة التحقيق الدولية في الجوار، وبعضهم الآخر قال إن الضباط الأربعة المعتقلين في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري محتجزون في المقر. لم يعط أحد من المسؤولين أي تفسير. اكتفوا بأن حوّلوا السكان إلى عناصر إضافيين في ثكنتهم الموسعة. وفيما أصاب الوهن والارتخاء التدابير الاحترازية في الوسط التجاري، بدا أن القبضة الأمنية في الحي السكني تتصاعد وتضيق كل يوم الخناق أكثر. فلا يكاد السكان يتأقلمون مع واقع معين حتى يأتيهم قرار جديد. مثلاً كانت قضية التراخيص مقتصرة على ركن السيارات، أما اليوم فصارت تطاول أي سيارة عابرة، إلى أن بات الحي سجناً فعلياً يمنع مجرد المرور فيه لغير السكان المعروفين سلفاً. ومع قطع طريق رئيس يوصل الناس إلى منازلهم، صار عليهم إما الالتفاف عبر طريق تستغرقهم نصف ساعة إضافية على الأقل، أو العبور بعكس وجهة السير في أحواله الطبيعية لمسافة لا تتخطى عشرة أمتار. سوى أن مخالفة قوانين السير مسألة خاضعة للعقاب القانوني، والتجاوز مرهون بغرامة. وبالتالي، فإن أي تعاون مع حاجات السكان يخضع لمشيئة رجل الأمن الذي يحرس مدخل الحي. فإذا كان بمزاج جيد وأشفق عليك بعد نهار عمل، أدخلك إلى بيتك، وإلا رشقك بعبارة"لف اللفة"، لتبدأ رحلة البحث عن"مرقد"لسيارتك، تعود بعدها سيراً إلى المنزل فيسجل رجل أمن آخر دخولك وخروجك كما في مدرسة داخلية. القفز بين المربعات في شكل يومي بات منهكاً، والسيارة امتلأت بتراخيص بألوان كثيرة وصلاحيات مختلفة ليس من ضمنها تسهيل حياتنا كأفراد. هي حالة عبثية تذكر بنص سوريالي كتبه موريس دانتك على ما أذكر، عن طرقات كثيرة تفضي إلى مستديرة. يدور السائقون بحثاً عن شارع للخروج من دون جدوى. يسألون شرطي السير فلا يجد الأخير إلا أن يكتب غرامة لمن لم يربط حزام الأمان!