هل كادت حرب أهلية لبنانية تندلع فعلاً بسبب شجار بين طالبين في كافيتريا الجامعة العربية في بيروت؟ هل فعلاً معاكسة شاب من الموالاة لفتاة من المعارضة دفعت الطالبين عمر وعلي الى بدء عراك لم ينته إلا بعد سقوط أربعة قتلى ونحو مئة جريح وكاد ان يجر بلداً بكامله إلى ما لا تحمد عقباه؟ عمر وعلي اسمان حقيقيان للطالبين وإن حملا الكثير من المعاني الرمزية لما جرى في بيروت في ذلك اليوم، فمناطق المدينة وشوراعها انقسمت في ذلك المساء بدورها بحسب عمر وعلي، فيما طوقت مناطق الياس وميشال وغيرهما لتحييدها عن المعارك قدر الامكان. تصالح عمر وعلي لاحقاً في مكتب أحد عمداء الجامعة... لكن شظايا شجارهما أصابت زملاء لهم وشباباً آخرين استقيظوا لتوهم على اسباب معركة أعمق. في ذلك المساء، غادرت هنادي الجامعة الاميركية مهرولة، بعدما استنفدت المهلة القصوى لتقديم الدراسة المطلوبة منها. إنه موسم الامتحانات الفصلية وتقديم المشاريع. مدد بعض الاساتذة المهل حتى السادسة مساء أو الثانية عشرة ليلاً، لكن المحظوظ فعلاً من يتمكن من الوصول الى الجامعة قبل هذين الموعدين. بدأ الطلاب الركض في جميع الاتجاهات، فالطرقات مقطوعة إما على يد الجيش اللبناني أو على يد حاملي العصي والجنازير من مناصري عمر وعلي. ذلك أن فرق دعم الشابين وصلت بسرعة البرق الى محيط الجامعة العربية بالفانات والسيارات وسيراً على الأقدام، كما توزعت أيضاً في الأحياء المختلطة من المدينة وسيطرت عليها بلمح البصر. يضاف إلى ذلك كله أخبار سرت بين الطلاب وكانت لم تتأكد بعد، عن احتمال فرض حظر تجول مسائي. تسكن هنادي منطقة الأشرفية ذات الغالبية المسيحية، ولتصل الى منزلها من منطقة الحمرا حيث مقر الجامعة الأميركية، عليها أن تجتاز شوارع سنية وأخرى شيعية وثالثة مختلطة. أخذت تفكر في أقرب طريق للوصول الى البيت وتفادي الحواجز. لفتها أن اسمها وشهرتها لا يكشفان انتماءها الطائفي، فمنحها ذلك بعض الثقة بالنفس دعمتها بمقولة انها فتاة ولن يتعرض لها أحد. لكنها فجأة راحت تفكر في المناطق التي ستعبرها. ما لونها؟ ما هويتها؟ لم تسأل من قبل إذا كان شارع مار الياس مثلاً يغلب عليه السنة أو الشيعة، ثم ماذا لو سألها أحدهم عن هويتها؟ صديقها الذي يسكن هناك لم يتمكن من دخول منزله قبل أن يبرز بطاقته ويثبت أنه ليس محسوباً على"الآخرين". من هم الآخرون؟...احتارت بأمرها ثم حاولت الاتصال بزينة صديقتها التي تسكن في منطقة راس النبع ذات الغالبية السنية للاطمئنان عليها، فقد سمعت بوقوع بعض الاشتباكات هناك وقيل ان مسلحين يسدون مداخل الشوارع. لكن خطوط الهاتف كلها مقطوعة وزينة لا تجيب. ماذا تراها تفعل الآن؟ هل ستبيت الليلة وحدها في المنزل أم تلجأ الى منطقة أخرى كما فعل كثيرون؟ لا يفصل منزل هنادي في الأشرفية عن منزل زينة في راس النبع سوى شارع عريض يطلق عليه اسم"طريق الشام"، وهو يفصل بدوره كلية الطب عن كلية الآداب في الجامعة اليسوعية. فزينة تقول لمن يريد الاستدلال الى منزلها أنها تقطن خلف الجامعة، وهنادي أيضاً، ثم تضيف كل منهما"لجهة الأشرفية"،"لجهة راس النبع". شارع واحد يفصل بينهما، يقطعه الطلاب يومياً بين الكليتين لتناول القهوة أو الطعام في كافيتيريا الآداب حيث نسبة الجميلات أعلى، كما تقطعه الشابتان لتبادل الزيارات مساء. فجأة عاد الشارع الى سابق عهده، خط تماس يفصل منطقتين وطائفتين وعالمين. في اليسوعية الممتدة على طرفي ذلك الخط، لم تعلق الدروس أو تلغى الامتحانات. قالت جوانا التي خضعت لامتحان مسائي بعد انتهائها من دوام عملها في وسط بيروت أن الامور جرت كالمعتاد"بمن حضر". ومن لم يتمكن من الوصول ينظر في وضعه لاحقاً. تصرف يشبه اليسوعية وإدارتها إلى أبعد الحدود، ذلك أن لهذه الجامعة طريقتها في التعامل مع الأزمات ومواجهتها وتحديها. ففي خضم الحرب الأهلية اللبنانية، كان المدخل الغربي لحرم الجامعة في شارع هوفلان يقع تحت سيطرة قناص تابع لأحد الأحزاب المتناحرة فيما المدخل الشمالي يطل على منطقة قناص من الفريق الآخر، ولم تعلق الصفوف حينها. بل بقي الطلاب واساتذتهم يتحينون فرص الدخول والخروج واستمرت الصفوف"بمن حضر". وفي العام 1999 عندما قصفت إسرائيل محطة الكهرباء في الجمهور، وشل البلد بالكامل، اتصلت إدارة الجامعة بالطلاب فرداً فرداً، وطلبت منهم عدم التغيب عن الدروس. الأميركية تعتمد الإيميل في هذه الحالات، وسيلة سريعة وفعالة لتبليغ طلابها قراراتها، كما أنها طريقة لا تترك للطلاب مجالاً للنقاش أو المراوغة أو اختلاق الاعذار. فبمجرد أن يرسل التعميم عبر الشبكة، يعتبر الجميع مبلغاً، ومن لم يتفقد بريده الالكتروني يتحمل مسؤولية افعاله. التفت هنادي في طريقها الى المنزل على الحواجز، وعادت أدراجها في مناطق أشعلت فيها النيران، وحافظت على رباطة جأش عندما اعترضها شاب يحمل عصا غليظة، فانتبه فجأة إلى أنه يعرفها والقى التحية عليها. فردت"هذا أنت؟ والله كبرت... ماذا تفعل هنا؟". وقبل أن يجيبها فهمت أن عليها المغادرة. وصلت الى محاذاة الجامعة اليسوعية وأعادت التفكير بزينة، هل تقطع المسافة سيراً وتحضرها معها ليبيتا في الأشرفية حيث الأوضاع مستتبة؟ ولكن أين تترك السيارة؟ قررت دخول الحي وتفقد صديقتها في المنزل، فهي تسكن وحدها مثلها، مع فارق أن المعارك تجري تحت شرفتها، وأنها جارة الوزير أحمد فتفت وقد يشكل ذلك خطراً إضافياً عليها. فماذا لو تعرض منزله لهجوم؟"صار على المرء أن يحسب حساب جيرانه"، قالت لنفسها. ثم أوقفت السيارة وقرعت الباب. فتحت زينة مذهولة. عانقت صديقتها وقالت"الحمد لله أنك أتيت. الاتصالات مقطوعة. سأمضي الليلة عندك. لكن ماذا لو عرفوا أنني مسلمة؟".