- «هذه... هذه دعها تمر. تحققت من أوراقها. وتلك أعدها من حيث أتت». - «هذه التي هنا؟... افتحي صندوق السيارة للتفتيش. ماذا في الحقيبة؟ ثياب رياضة... اعبري». هذا ليس مشهد اجتياز حدود جغرافية بين بلدين، ولا هو حاجز عسكري يعود إلى حقبة ظنها اللبنانيون (أو بعضهم) ولت ودبرت، ولا حتى «سيطرة»، على ما تسمى حواجز التفتيش في العراق، في وسط بغداد. إنه ببساطة ما يتعرض له يومياً، ومنذ نحو أسبوعين وإلى أجل غير مسمى سكان الحي المحيط بمبنى قوى الأمن الداخلي في وسط بيروت. «هذه» هي أنا. و «تلك» شابة بدا أنها طالبة في الجامعة المجاورة حاولت أن تعبر الطريق بسيارتها إلى الناحية الأخرى من المدينة. لم تفهم الفتاة ماذا يحصل فحاولت الاستيضاح لكن الشرطي نفد صبره وجعلها تستدير وسط الطريق وتسرع في الرحيل ساخراً من قيادتها وملقياً باللوم عليها لأنها تسببت في ازدحام السير. أما أنا التي تحولت بلغة ذلك الشرطي ورفاقه إلى مجرد «هذه» بما يرافق ذلك من شعور بالازدراء والإهانة، فسمح لي بالوصول الى منزلي لأنني أملك ترخيصاً يثبت سكني في الحي، ويتطابق مع بطاقة هويتي. كما أن تفتيش سيارتي الذي بت أتعرض له مساء كل يوم، أظهر أنني لا أخبئ في صندوقها ما يهدد مديرية قوى الأمن أو من في داخلها. الإجراءات الأمنية الإضافية التي فرضت على الحي منذ فترة أعادت السكان إلى مرحلة سابقة من ضبط أمن الأحياء، بعدما راح قطرها يتوسع على نحو مطرد وغير مفهوم في محيط الثكنة، لتشمل في كل مرة مزيداً من السكان والمباني والشوارع والمحال التجارية المتضررة اقتصادياً من الطوق المطبق عليها. هكذا، سقط القرار الرسمي على الأهالي من دون تبليغ مسبق أو تشاور ولا إيضاح خطة زمنية أو جغرافية لما ستؤول إليه أحوالهم. وهم، رغماً عنهم تحولوا عسكريين في حرم ثكنة تتضخم كل يوم وتبتلع غرف بيوتهم وشرفاتهم ومواقف سياراتهم وتطرد ضيوفهم. فصحيح أن الإجراءات الأمنية التي بدأت تطبق في تلك المنطقة منذ نحو ثلاث أو أربع سنوات غيرت معالم الحي وبدلت اتجاهات السير فيه وفرضت على أبنائه تأقلماً قسرياً معها، إلا أنها حاولت هي أيضاً التأقلم مع بعض حاجاتهم كأناس مدنيين. فخف تفتيش أكياس البقالة وسهل شرطي المرور عبور زقاق بعكس السير تفادياً لالتفافات قد تستغرق ساعة وأكثر في وقت الذروة كما حكي عن بدل عطل وضرر تقاضاه بعض أصحاب الدكاكين. لكن تلك الفترة الهادئة نسبياً لم تترافق مثلاً مع خفض عدد العسكريين المنتشرين على النواصي، ولا غياب رجال أمن باللباس المدني يتحققون من «بعض المعلومات» من حين لآخر. إلا أن أجواء الاحتقان الأخيرة وترقب اندلاع فتيل حرب بين لحظة وأخرى بالتزامن مع كلام عن استهداف مديرية قوى الأمن الداخلي، فرضت تحصينات جعلت المنطقة تشبه مناطق بغداد المعزولة أمنياً. فزادت حواجز الاسمنت المسلح التي سبق وقطعت أوصال الشوارع الداخلية، وزرعت كاميرات مراقبة على المداخل تسجل كل حركة دخول وخروج، أضيف إليها أخيراً إغلاق المنطقة كلياً بين السابعة مساء والسابعة صباحاً، لتتحول الأسر والأفراد (وهم كثر) إلى طلاب مدرسة داخلية من طراز قديم. ولعل أكثر ما يترجم عدم أخذ المدنيين في الحسبان خلال الإعداد لهذه الخطة الأمنية، تلك المفاجأة الكبيرة التي بدت على وجه الشرطي لدى سؤاله عن احتمالات استضافة زوار من خارج المنطقة ممن لا يملكون تصاريح دخول. بدت عليه دهشة ممزوجة بقلة حيلة تجاه أشخاص راغبين بمتابعة حياتهم بما تيسر من أشكال الحياة الطبيعية في بلد ضاقت فيه سبل العيش. قال الشرطي إن «المسألة تبحث في وقتها». ثم حاول تخفيف وقع إجابته بالقول إنه ربما يمكن إدخال الضيوف على تصريح الساكن المضيف، بعد كتابة أسمائهم وأرقام هواتفهم. والواقع أن ضائقة السكان تتخطى مجرد التعود على تدابير أمنية موقتة إلى شعور بات يتملكهم بأنهم أُخذوا دروعاً بشرية في ما لو صحت مخاوف الثكنة باحتمالات استهدافها. فهي بوجودها في محيط مدني أعزل، وإقدامها على ما تقدم عليه تعرض هذا المحيط للخطر وتثير مشاعره العدائية تجاهها في آن. فهذا حي يضم طبقة وسطى من موظفين ومهنيين وطلاب يسكنون بمفردهم وأجانب يعملون في المدارس والمراكز الثقافية المجاورة، بالإضافة إلى عائلات لبنانية ذات توجهات سياسية مختلفة. إنه مزيج مديني مؤيد لحضور الدولة إلى حد بعيد، ولا يزال أبناؤه يرون في المخفر مكاناً للشكوى وفي الشرطي وسيلة لفرض القانون وفي توقيع عريضة استنكار طريقة للاعتراض على هذا الواقع المستجد. لكن رفض استقبال العريضة وتجاهل مطالب حياتية تجعل هذا النسيج الاجتماعي نفسه قابلاً للتخلي عن ثقافته المدينية والانقلاب عليها عندما تصبح الترجمة اليومية لحضور الدولة عسكرة للحياة المدنية وتجنيداً قسرياً لسكانها كمن يطالبهم أن يتحولوا بدورهم إلى «أهال» على نحو ما هم الأهالي في مربعات أمنية أخرى. وربما الأخطر من هذا وذاك، تدجين الرأي العام حيال إجراءات تخرق الحريات المدنية والخصوصيات الفردية أمام فزاعة الأمن ليصبح المواطن مستعداً للتضحية بها مقابل حفظ أمنه وأمانه. فالإجابة التي يشهرها كثيرون أمام شكوى من هذا القبيل هي أن المنغصات الحياتية تبقى أفضل من التفجيرات، خصوصاً أن أي اعتراض يضع صاحبه في معسكر السياسة المقابلة ويخرجه مرة أخرى من دائرة المطالبة المدنية البسيطة. أما مناقشة الكاميرات المسلطة فوق رؤوسنا وقطع الطريق إلى منازلنا وفرض تصاريح مرور على حركتنا، فتلك كلها رفاهية تركناها لبلدان العالم الأول، تلك التي قررت جارتي الهجرة إليها.