الهدوء الذي لا تعرفه منطقة الأشرفية إلا في أيام الآحاد بدا مختلفاً هذه المرة. هو ذهول تخلفه الصفعة القوية في نفس من يتلقاها فتتركه جاحظاً غير مدرك لما يحدث. فهذه المنطقة التي تستيقظ متثائبة على قرع اجراس الكنائس يوم العطلة الاسبوعية، استفاقت أول من أمس على حالة هستيرية من الشغب والتخريب، فبدأت نهارها كمن ألقي عليه ماء مثلج. سكان الأشرفية... الفرانكوفونيون، الذين طبعوا تظاهرات 2005 بطابعهم الخاص، وجعلوا ثورة 14 آذار تعرف ب"انتفاضة غوتشي"، لأناقتهم وترفعهم في العادة عن المشاركة في التحركات الشعبية والمطلبية، استعادوا أول من أمس هواجس الحرب ومخاوفها. الحصار الذي ضربته القوى الامنية حول منطقتهم لعزلها عن أماكن الشغب أعاد الى أذهانهم شعور"شرقية- غربية"الذي ظنوا أنهم تخلصوا منه في ما سموه"ساحة الحرية". فجأة عادوا يتكلمون عن"هناك"و"هنا"و"هم"و"نحن"في تكرار لقاموس كانت صفحاته قد طويت. فصاحب الفرن، نصح الشابة التي زارته صباحاً لشراء الفطور بعدم الابتعاد عن"منطقتنا". قال لها:"الوضع ليس آمناً، فاخواننا المسلمون غاضبون غضباً شديداً". وأبدى الفرّان تعاطفاً مع اسباب التظاهر لكنه تعاطف مشوب باستنكار حذر من الطريقة التي آلت اليها الأمور. ومرد الحذر ذاك خوف من الظهور بمظهر من كان متربصاً بعدوه في انتظار أن تزل قدمه لينقض عليه. فمنذ سنتين أو أقل ما كنا لنسمع في الأشرفية تعبير"اخواننا المسلمون"، بل كان يشار الى المنطقة الغربية من بيروت ب"هناك"، بصفتها القاطع الآخر من المدينة، ذلك الآخر الغريب والمجهول حتى بعد انتهاء الحرب. لكن لقاء سكان الاشرفية وشبابها بسكان المناطق الأخرى في مخيم ساحة الشهداء، كسر الصورة النمطية، أو على الأقل خفف من حدتها، فصار تعبير من هذا النوع مألوفاً. لم ينتفض سكان الأشرفية كما كان لينتفض أي شخص آخر لرؤيته شباناً يحطمون سيارته، أو زجاج محله أو حتى بلاط الأرصفة أمام منزله. فالقلة القليلة التي أطلت على الشرفات تتفقد ما يجري في الشارع تحتها، لم تحرك ساكناً، بل عادت الى الداخل وأغلقت الستائر، خوفاً من الأسوأ. طاول الخوف أيضاً الاملاك العامة من حاويات نفايات وكاميرات على ابواب المصارف واوراق سلبت من المكاتب وأحرقت، فلم يستوعب الأهالي السبب الذي قد يدفع بالمتظاهرين الى تخريب الشوارع وتكسير مقاعد الأرصفة. الذهول الذي تملك اهالي الأشرفية، جعلهم لا يعرفون كيف يقاربون اشخاصاً جاؤوهم بالحافلات من المناطق والاطراف ليخربوا عليهم منطقتهم. كأنه الترفع عن طباع المخربين، وعدم الرغبة في مجاراتهم أو حتى اعطائهم بعض الشأن، هو ما منع سكان الاشرفية من شهر سلاحهم واستعماله في وجه المتظاهرين. فالاشرفية معقل"القوات اللبنانية"، وأبناؤها خاضوا الحرب طولاً وعرضاً ويعرفون معنى الهجوم والدفاع خصوصاً في تلك المنطقة التي كانت خط تماس سابق. لكن شيئاً ما منعهم من الاقدام على خطوة قد تؤزم الوضع، وهو بالتأكيد ليس دعوات زعمائهم السياسيين الى ضبط النفس بل ارباك وذهول من أن هؤلاء الذين نزلوا الى الشوارع هم بطريقة أو بأخرى حلفاؤهم. لكنه الخوف أيضاً، خوف عميق يشعر به بعض اللبنانيين المسيحيين تجاه مواطنيهم المسلمين. فهم اقل عدداً منهم، وپ"خسروا"الحرب الأهلية أمامهم، وأصيبوا بإحباط لم يشفوا منه بعد. لا هم سنّة لم يشاركوا فعلياً في الحرب، لكنهم قطفوا ثمارها صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة، ولا هم شيعة يملكون قوة عسكرية لا يمكن مناقشة سلاحها وحررت الجنوب كپ"حزب الله". هم أقلية خاضت حرباً"فخسرتها"، ثم تناحرت في ما بينها في حرب عون- جعجع، وطالبت بدخول السوريين في 1976، واليوم، أدت تحالفاتها الانتخابية الى شرذمتها واضعافها أكثر، خصوصاً مع المطالبات المتزايدة باستقالة رئيس الجمهورية. تراكمات لا يمكن تجاهلها في تفسير رد فعل أهالي الأشرفية، فهذه حسابات لم يطردها وعيهم الجماعي أو لاوعيهم بعد من ذاكرتهم. ولعل الارباك ايضاً جعلهم يؤجلون غضبهم الى حين يتضح المشهد أمامهم فانتظروا انتهاء أعمال الشغب لينزلوا بدورهم الى الشارع. فما كادت ساعة الوسط التجاري تدق السادسة والنصف مساء حتى احتل شباب"القوات اللبنانية"وپ"التيار الوطني الحر"الطريق المؤدية الى الكنيسة المتضررة من أعمال الشغب. الاحتقان كان قد بلغ درجاته القصوى. لكن فوضى الشعارات المرفوعة أو بالأحرى غيابها كشف عدم الاستعداد لصفعة من هذا النوع. راح كل فريق يطالب بزعيمه رئيساً للجمهورية. ثم انتبهوا الى انهم يشتون عن هدفهم. فجأة راحوا يتعرضون لپ"حزب الله"والضاحية الجنوبية، لكنهم مرة أخرى انتبهوا الى ان الحزب لم يشارك في تظاهرة الصباح. حولوا شعار"حقيقة حرية وحدة وطنية"الذي أطلق في ميادين الحرية وساحاتها بعد 14 شباط فبراير الماضي، الى"قوات، عونيي، وحدة مسيحية"، لكن هذا الهتاف ايضاً لم يعبر عن حالهم، فاكتفوا بأن أداروا مكبرات الصوت على اناشيدهم الحزبية. لم يفهم أهالي الاشرفية ماذا حدث. فبالأمس جمعتهم التظاهرات بمن يحطمون زجاجهم اليوم. وبعد أقل من أسبوع كانوا سيشاركون في ذكرى 14 شباط. حال من الذهول والارباك سيطرت عليهم فجعلتهم يقفون في التجمع المسائي يضربون كفاً بكف ويسألون ماذا جرى ولمَ لم تمنع القوى الامنية حدوثه؟ المتظاهرون بدوا مشتتي الذهن، لا يجمعهم شعار ولا حماسة وكأنهم جاؤوا الى مكان التجمع للاستطلاع. الشابة التي أخرجت رأسها من احدى السيارات وأطلقت هتافاً لم تجد من يردده خلفها، ضحكت خجلاً وأدارت رأسها جانباً. مع حلول المساء لم تبق سيارة في الشوارع والأزقة لم تلصق عليها لوائح بلاستيكية مكان زجاجها المهشم. حاول الأهالي امتصاص الغضب بأن عالجوا نتائجه المباشرة، بانتظار أن يفيقوا من الصفعة ويفهموا ما حدث لهم.