الحصول على كمية من البنزين اليوم في بيروت صار أصعب من امس. بدأنا نشعر بوطأة الحصار فعلاً، مادة كالبنزين تعطي املاً بإمكان التنقل والفرار، اعتقد ان من الصعب تحمل الحياة من دونها. كل يوم يحمل جديداً على صعيد مصاعب العيش. ففي الأمس صرح ناطق عسكري اسرائيلي ان على سكان مدينة صيدا مغادرتها فوراً: جنرال واحد يأمر ما يزيد على مئتي الف نسمة بمغادرة مدينتهم. الصيداويون لم يصدقوا التهديد، ولم يغادروا مدينتهم، لم يكن ذلك صموداً وانما شعور جماعي بأن ثمة خطأ ما، او ان الجنرال الإسرائيلي لا يعي ما يقول، ظنوا ان عددهم يحميهم وهو امر ربما كان صحيحاً ولكنه مغامرة ايضاً. امي من بينهم، وهي لا تريد الخروج من المدينة، اخي قال انه سيخرج حاملاً امي فور شعوره ان السكان بدأوا بالمغادرة. جزء كبير من هذه الحرب نفسي، هذا صحيح. سكان صيدا ينتظر واحدهم الآخر لكي يخرجوا من المدينة، وهم الى الآن لم يخرجوا، واذا فعلوا فسيفعلونها مع بعضهم بعضاً ومرة واحدة. مقاهي"ستارباكس"في بيروت الغربية مقفلة كلها، ولكنها في الأشرفية، شرق بيروت، لم تقفل بعد، فما زال"ستارباكس"في ساحة ساسين يستقبل رواده حتى ساعات الليل الأولى، في حين يبقى مقهى"تشيز"حتى الواحدة فجراً، اعتقد ان"ستارباكس خائف قليلاً. لا شيء ثابتاً في بيروت هذه الأيام، ويمكن رصد تناقص السلع ومظاهر الحياة المختلفة يوماً بعد يوم. بالأمس مثلاً بدأ الفوج الأخير من الفرنسيين بالتجمع والإنطلاق الى المرفأ للمغادرة، هذه علامة أخرى غير جيدة. والتساؤل اليومي هو الى اي مدى يمكننا البقاء؟. والسؤال الأصعب طبعاً الى اين يمكننا المغادرة؟ لا بأس ببعض السهر في أحد مقاهي الحمرا، هناك حيث يتجمع عدد من الذين ألفوا السهر في المحن، او من المنضمين الجدد الى هذا النوع من السهر. الوجوه مرهقة ومتعبة، الضحك هو نوع من البكاء. فأن تضحك مثلاً وأنت تتحدث عن معمل يملكه شقيقك في الضاحية الجنوبية احترق بكامله، أو ان تخبرنا أنك تمكنت اليوم من ارسال ابنتك الى مصر وما خلفه هذا من بعض الانفراج لديك، فإن ذلك هو ضحك الحد الأدنى من الحياة. ان يضحك المرء بفسحة على هذا القدر من الضيق وانعدام الأفق، فهو ضحك المختنق. في كل يوم يضاف عبء جديد. اليوم البنزين وغداً الفيول مثلاً. وعندما تبدأ مرحلة الفيول لا تكون مرحلة البنزين قد انقضت وانما اضيفت اليها ضائقة جديدة. وعليك التعود على ترتيب الأعباء وعلى ترك امكنة جديدة للأعباء المتوقعة. والتوقع امر نفسي فقط، اي انه لا يفيد بشيء. لا يمكن استباق ازمة وتفاديها، الحصار اقوى من الأفراد ومن امكان استباقهم له. لا يمكن تخزين البنزين قبل انقطاعه، سبب غامض وراء ذلك. فكلنا كان يعرف ان الأزمة طويلة وأن البنزين سيفقد، لكن احداً لم يحتط للأمر. والآن تقترب استحقاقات اخرى ونحن لا نستطيع الا الرضوخ اليها. انه شعور لا يطاق بالعجز امام هذه المحنة. لحظات قليلة ويتصل صديق ليخبرك بأنه تمكن من تأمين"غالون"بنزين لك. يا الله ما اجمل هذا الشعور. الآن صار في أمكانك ان تشعر ان ثمة تقدماً حصل. عشرون ليتراً من البنزين تمكنك من اجتياز مسافة 200 كيلومتر. انهم رصيد شعوري لا بد منه لكي تتمكن من البقاء. عليك ان تعرف ان مزاجك الآن شديد التقلب. البنزين وحده لا يكفي. في العراق تعرض المواطنون لأزمات كبيرة في المحروقات، لكن ذلك تصاحب مع شعور داخلي في انهم في بلد النفط. محطات الوقود كانت تقفل ابوابها في احيان كثيرة هناك، وفي احيان اخرى يمكنك ملاحظة صف طويل من السيارات مزدحم امامها، لكن في الوقت نفسه كان باعة البنزين في السوق السوداء يعرضون غالوناتهم على الطرقات والفارق في السعر ليس كبيراً. هنا في بيروت الكمية المتبقية محدودة مهما احتكر المحتكرون. السيارات حين تمشي تستهلك من الكمية المتبقية التي لا يمكن ان تزيد بفعل الحصار المحكم. انت تقترب اذاً من لحظة سينتهي فيها وقود سيارتك. غادرت منزلي في بيروت في الأيام الأولى من الحرب، فهو يطل على اجزاء بعيدة من بيروت، وأصوات الانفجارات تسمع واضحة منه. غادرته الى فندق في منطقة رأس بيروت، وصرت اقصده كل يومين أو ثلاثة. حياة الفنادق صعبة وضيقة، العودة الى المنزل وإن كانت لفترة قصيرة تشعرك بالحاجة الى اتساع منزلك، وكم انك مشتاق الى اغراضك والحاجات التي لم تشعر يوماً بمدى ارتباطك بها. لم يبق من السكان الا عدد قليل. حارس المبنى يشعر بوحشة رهيبة. يمكنك ان تلاحظ ذلك في وجهه. وثمة ايضاً سكان جدد ممن تهجروا من الجنوب واعطاهم السكان وهم اقاربهم منازلهم التي انتقلوا هم منها الى الجبال. الحارس صار يستعمل عبارة"السكان الأصليين"ليشير الينا نحن سكان المبنى، وهو ما زال مواظباً على ري المزروعات القليلة في الحديقة. في الأشرفية الوضع اقل وطأة بقليل. المتاجر الكبيرة ما زالت تفتح حتى السابعة مساء، والناس او بعضهم مواظبون على المقاهي وبعض ما تبقى من الأماكن العامة. المهجرون قليلو الحضور في الشارع على رغم وجودهم في مدارس الأشرفية. والساكنات وحدهن وهم كثر في تلك المنطقة اكتشفن وطأة الحرب اكثر من غيرهن. ساعات طويلة يقضينها في المنزل وأمام التلفزيون خائفات من مجاورة منازلهن لجسر أو مخفر درك، لكنهن ألفن منازلهن على نحو صار يصعب عليهن مغادرته الى آخر في الجبل او الى منزل العائلة في مكان ما خارج بيروت. الحرب ستقضي ربما شيئاً فشيئاً على استقلالهن بمنازل وحياة مستقلة عن الأهل. الحرب تعيد جمع شمل العائلات وتقرب الأجيال وتقوي الروابط القديمة. لا شيء في بيروت بقي كما كان قبل شهر تقريباً. الهاتف الخليوي ما زال يعمل لكن المتصلين اختلفوا. عشرات المكالمات تصلك يومياً من اقارب تهجروا، او اصدقاء عابرين من الخارج يطمنّون، ورسائل تصل من"جيش الدفاع الإسرائيلي"تبلغك تهديدات. كثيرون غيروا اماكن اقاماتهم وآخرون استقبلوا مهجرين في منازلهم فانقلبت وتيرة حياتهم وأوقاتهم على نحو لم يعد من الممكن لقاؤهم. والمناطق فجأة صارت بعيدة بحيث لا يمكن زيارة كثيرين ممن تعرفهم. امور كثيرة تتناقص كل يوم، فلارا قالت انها لم تعد تعثر على الپ"تشوكليت كيك"في اكثر من مقهى. اشارات كثيرة لا يمكن ادراجها الا في سياق ضمور اسباب العيش، وربما تكون عادية لكن يبقى لها هذه الأيام وقع خاص، فقبل ايام مثلاً انقطعت الكهرباء في بيروت وانطفأت شارات السير، لكن لهذا الأمر وقعاً رمزياً كبيراً، فالمنازل أُضيء الكثير منها عبر المولدات الخاصة والاشتراكات، والفنادق بقيت ترسل هواء مبرداتها الى غرف النزلاء والمطاعم استمرت، ما تعطل هو الدولة، ذلك الكائن الضعيف والمنتهك. انه امر مخيف فعلاً. نحن اقوى من دولتنا التي من المفترض ان تكون ملجأنا في هذه الظروف العصيبة. الشرطي لا حول له ولا قوة، ورئيس البلدية يناشد المواطنين عدم رمي النفايات في الطرق. بالأمس اتصلت السفارة الفرنسية بحنين ونديم وأنذرتهما ان الباخرة التي ستنطلق اليوم من مرفأ بيروت ناقلة رعايا فرنسيين ستكون الأخيرة، وان عليهما في حال رغبا في المغادرة ان يتوجها الى المرفأ. نديم لا يريد المغادرة، وحنين تقول انها راغبة في الذهاب الى فرنسا بسبب ابنهما الذي لم يبلغ السنتين من العمر بعد. المنازل في بيروت تضج نقاشات من هذا النوع وفي الغالب تنتصر وجهة نظر الراغبين بالمغادرة، اذ ان الانتظار الذي دام اسابيع لم يؤد الا الى مزيد من تعقد الأوضاع ومن اقتراب المحنة من حياة الناس بطرق شتى. اسئلة من نوع: هل نستأجر بيتاً في الجبل؟ وأجوبة كثيرة منها ان الخطر محدق اينما كنت، او ان الإيجارات مرتفعة جداً هذه الأيام، او ان الطريق ليس آمناً. علي وديانا جاءا من دبي قبل نحو اربعة اشهر. تمكن علي من اقناع الشركة التي يعمل فيها بأن تفتح مكتباً لها في بيروت وتكفل بتأمين كل ما يلزم لذلك. اما ديانا فتعمل مصممة اعلانات في احدى الشركات العالمية، وهي كانت تستطيع انجاز عملها للشركة من منزلها في بيروت. اشتريا منزلاً في بيت مري وقررا الإقامة في بيروت. بالأمس عادا الى دبي، وقال علي انه سيبحث عن منزل في دبي ليشتريه لأن ثقته بلبنان تعوزها سنوات كثيرة حتى يعاد ترميمها. كل شيء يمكن ان يروى مجدداً بصفته علامة على قدوم زمن جديد.