منذ أواخر عام 2002 والدولار يشهد انخفاضاً مستمراً تجاه العملات الرئيسة الأخرى كاليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني. وبين عامي 2001 و 2006 بلغت نسبة الانخفاض 33 في المئة في مقابل اليورو و 27 في المئة في مقابل الجنيه الاسترليني و 11 في المئة امام الين 1. وفي 21 آب اغسطس 2007 وصل الدولار الى أدنى مستوى له امام الاسترليني منذ عام 1981 وهو 2.06 دولار وانخفض امام اليورو الى 1.42 دولار وهو أدنى مستوى له منذ بدء التعامل بالعملة الأوروبية الموحدة عام 1999. وقام مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الأميركي باحتساب الرقم القياسي لسعر الدولار 1973 = 100 مرجحاً بسلة مؤلفة من سبع عملات رئيسة في العالم للفترة 1994 - 2007 فأظهرت النتيجة انه وصل الى أعلى مستوياته عام 2002 أكثر من 110 ثم انخفض الى أدنى مستوياته في عام 2007 أقل من 80 2. وبسبب أهمية الدولار كعملة العالم الرئيسة، لا بد من التقصي عن اسباب التدهور في قيمته تجاه العملات الأخرى وتحديد آثار الانخفاض على الاقتصاد الأميركي وعلى اقتصادات بقية العالم. للدولار، كعملة احتياط في البنوك المركزية في العالم، ميزة خاصة عن بقية العملات. فالولاياتالمتحدة تستطيع لتغطية نفقاتها الداخلية والخارجية، أن تصدر الدولار وتضخه في الاقتصاد المحلي والاقتصاد الدولي على شكل طلب على سلع وخدمات وتقديم مساعدات. وقبل فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971 كانت قدرة الولاياتالمتحدة على ضخ الدولار مرتبطة بحجم احتياطها من الذهب. لكن بعد فك الارتباط بينهما لم يعد هناك ما يقيد قدرة الولاياتالمتحدة على اصدار الدولار وضخه. ولأن الدولار ما زال عملة الاحتياط الدولي فإن الطلب عليه لهذا الغرض يمثل جزءًا كبيراً من الطلب عليه لتسديد معاملات التجارة الدولية. وتظهر أولى سمات الزيادة في ضخ الدولار في عجز الموازنة الاتحادية زيادة النفقات على الإيرادات الذي يشير إلى أن حكومة الولاياتالمتحدة تنفق أكثر من ايراداتها من طريق الاستدانة من داخل الولاياتالمتحدة ومن خارجها. وقد نجحت الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس بل كلينتون في تحقيق فائض في الموازنة بلغ 254.6 بليون دولار عام 2000 لكنه تحول في عهد الإدارة الحالية إلى عجز قدره 230.5 بليون عام 2003 أي بعد الحرب على العراق ثم ارتفع إلى 400.2 بليون دولار عام 2004 قبل أن ينخفض عامي 2005 و 2006 إلى 318.1 بليون دولار و 209.3 بليون دولار على التوالي3 . تمثل كمية العملة التي تضخها أميركا إلى الخارج طلباً على سلع وخدمات أجنبية تدخلها في مقابل دولارات خرجت منها. وكلما كان حجم الدولارات في الخارج كبيراً كلما زادت الضغوط على قيمة الدولار. لذلك يعتبر ارتفاع عجز ميزان الحساب الجاري حساب التجارة في السلع والخدمات في ميزان المدفوعات الأميركي من 389 بليون دولار عام 2001 إلى 600 بليون في النصف الثاني من 2004 ثم إلى 857 بليوناً عام 2006 سبباً رئيساً لانخفاض قيمة الدولار4. إن الدولارات التي تضخها الولاياتالمتحدة إلى الخارج لا بد ان يعود جزء منها إليها في شكل طلب على سلع وخدمات محلية وعندما يرتفع حجم العملة في التداول على قيمة الاقتصاد الحقيقي أو على قدرته على النمو، لا بد أن ترتفع الأسعار و/أو ترتفع الورادات ثم تنخفض أكثر في قيمة العملة. ويرى محللون أن هبوط الدولار مؤشر الى مدى السلبية التي يرى فيها العالم السياسات المالية المثقلة بالديون للإدارة الاميركية الحالية. إلى جانب ارتفاع عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري، فإن الارتفاع الحاد في أسعار النفط وضعف الاقتصاد الأميركي وأزمة الائتمان في القطاع العقاري، عوامل تساعد كلها على الاستمرار في ضعف الدولار. ويعتقد البعض بأن ضعف أداء الاقتصاد الأميركي يلعب دوراً حاسماً في الانخفاض الحالي لسعر الدولار واذا تحسن وضع الاقتصاد، يمكن أن يعاود الدولار ارتفاعه مجدداً. وقد اقترنت سياسات الأنفاق التوسيعية في الولاياتالمتحدة بخفض الضرائب وسعر الفائدة على الدولار إلى أدنى مستوى في 2003 و 2004 عندما بلغ 1.15 في المئة و 1.56 في المئة على التوالي، قبل أن يبدأ بالتحسن تدريجاً. وهو سبب آخر من أسباب انخفاض الطلب على الدولار وبالتالي انخفاض قيمته. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يتأثر الاقتصاد الأميركي بانخفاض الدولار، وما هو موقف الإدارة منه؟ إن النتائح التقليدية لانخفاض العملة هي ارتفاع الصادرات وانخفاض الواردات. وقد انعش الدولار الضعيف صادرات السلع الأميركية فارتفعت 4.6 في المئة عام 2003 و 13 في المئة عام 2004 و 11 في المئة عام 2005 قبل أن ترتفع عام 2006 الى 20 في المئة 5. وتعتبر قدرة الاقتصاد الاميركي على زيادة الصادرات محدودة بسبب ارتفاع أسعار مدخلات الانتاج المستوردة، خصوصاً الطاقة. فوحدة الانتاج الأميركية تستهلك من النفط أكثر من مثيلاتها في الدول الصناعية الأخرى ما يجعل كلفة الانتاج تتأثر سلباً بارتفاع أسعار النفط، والذي يعود جزءاً منه إلى انخفاض قيمة الدولار. لكن انخفاض الدولار لم يساعد كثيراً على انخفاض الواردات كما كان متوقعاً بسبب ارتفاع الميل الحدي للاستيراد في الولاياتالمتحدة وتعوّد الاميركيين على الإنفاق أكثر من الانتاج. فاستمرت الواردات بالارتفاع بمعدلات أعلى من معدلات ارتفاع الصادرات. ويعتقد محللون ان انخفاض سعر الدولار الحالي، هو سياسة متعمدة للولايات المتحدة لمقابلة انخفاض سعر العملة الصينية والحد من تدفق السلع الصينية الرخيصة إلى الولاياتالمتحدة. خصوصاً ان الصين لم تستجب طلب رفع سعر عملتها وتقليص حجم العجز التجاري مع الولاياتالمتحدة. ومن الشواهد التي تعطى على تعمد الولاياتالمتحدة سياسة خفض الدولار عدم تدخل السلطات النقدية لرفع سعر الفائدة او لامتصاص السيولة من الأسواق بالاكتتاب الداخلي في سندات الخزينة الأميركية. وغير عابئة بهواجس شركائها التجاريين في الاتحاد الأوروبي نتيجة تأثر صادراتهم سلباً بانخفاض عملتها. فمسؤولو الإدارة الأميركية يعتبرون التدخل في السوق لتحديد قيمة الدولار مناقضاً لرعاية نظام السوق الحرة على المستوى العالمي. كما إن الإدارة الأميركية غير جادة في التعامل مع العجز الحالي في الميزان التجاري أو عجز الموازنة. وما زال البيت الأبيض يخطط لمزيد من التخفيضات الضريبية ومزيد من الإنفاق العسكري، ومن شأن هذين المتغيرين المتناقضين زيادة عجز الموازنة وزيادة عجز الحساب الجاري. وما زالت الحكومة الأميركية تزيد من ديونها الخارجية في شكل سريع ما يعني مزيداً من مدفوعات الفوائد. إن الوضع الحالي للدولار من جهة وعدم قيام الإدارة الأميركية بإجراءات لوقف انخفاضه من جهة أخرى، يضعنا أمام تساؤلين: الأول: هل يتجه الدولار نحو مزيد من الانخفاض؟ والثاني: ما هو مستقبل الدولار كعملة احتياط دولي ومستودع للقيمة؟ ما زالت غالبية الاقتصاديين في الولاياتالمتحدة ترى ان الدولار سيواصل التراجع لأن انخفاض سعره الحالي فشل في كبح العجز المتضخم في ميزان المعاملات الجارية. ولخفض هذا العجز من طريق زيادة الصادرات، يجب أن ينخفض الدولار أكثر أمام العملات الرئيسة الأخرى. إضافة إلى ذلك ? وبما أن سعر العملة، كأي سلعة أخرى، يتحدد بالعلاقة بين مقدار عرضها والطلب عليها ? فإن سياسات الإدارة الأميركية الحالية والساعية إلى زيادة الإنفاق وخفض الضرائب وسعر الفائدة والاعتماد على الاستدانة الخارجية، كلها عوامل ترجح أن ينخفض الدولار أكثر في المستقبل. مع ذلك فإن المتغير الذي يخشى منه أن يدفع بالدولار أكثر نحو الأسفل في المستقبل، هو إذا انتقلت البنوك المركزية الآسيوية، والتي تحمل حالياً مقادير كبيرة من الديون الأميركية بالدولار، إلى موجودات أخرى. علماً أن أكثر العاملين على هذا التخلي في الوقت الحاضر هم صناديق التقاعد والتأمين والصناديق المشتركة في الولاياتالمتحدة ذاتها حيث تمتلك موجودات تساوي 20.7 ترليون دولار أي أكثر من أربع مرات احتياط العملة العالمي. فمنذ 2003 زادت الصناديق المشتركة في الولاياتالمتحدة تدريجاً موجوداتها من الأسهم الخارجية من 15 في المئة إلى 22.5 في المئة. وإذا كان سلوكها يعكس سلوك صناديق التقاعد والتأمين أيضاً، فإن ذلك يعني تحولاً عن الدولار بما يعادل 1.16 ترليون تم منذ عام 20036. ويعكس هذا التحول النظرة التشاؤمية للمسؤولين عن إدارة هذه الموجودات عن مستقبل الدولار. مع ذلك يستبعد على الأقل في ظل المعطيات الحالية أن يشهد الدولار انهياراً مفاجئاً نتيجة تلقيه ضربة قاضية في الأسواق العالمية. إن التحول الذي شهده العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، من الجنيه الإسترليني كعملة احتياط دولي وعملة تسوية معاملات التجارة الدولية، إلى الدولار، بعد تعرض الإسترليني لهزات عنيفة وفقدان بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية موقفها الاقتصادي المرموق لمصلحة الولاياتالمتحدة، تجعل العالم يرى أن المشهد يعيد نفسه الآن مع الدولار. فعجز الموازنة وضخامة حجم الديون الخارجية وضعف الاقتصاد الأميركي وسياسة أميركا العسكرية في الخارج وتعرض البنوك المركزية في العالم لخسائر كبيرة نتيجة احتفاظها بمعظم احتياطها بالدولار وبروز اليورو كعملة أكثر استقراراً، عوامل تدعو كلها إلى التساؤل: هل سيفقد الدولار موقعه كمستودع للقيمة وعملة الاحتياط الدولي؟ لا شك في ان قوة أميركا السياسية والاقتصادية واستقرار مؤسساتها الداخلية لا تزال تعطي دعماً كبيراً للدولار كعملة احتياط ومخزن للقيمة. كما إن التزام أميركا الطويل بأسواق رأس المال الحرة وحكم القانون واستقرار الأسعار منح الدولار صدقية كمستودع للقيمة. إلا أن السلوك الاقتصادي والعسكري للإدارة الأميركية الحالية والذي أدى إلى زيادة المعروض من الدولار في الأسواق العالمية، وبالتالي انخفاض مستمر في قيمته جعل المؤسسات والأفراد يفكرون في التحول إلى عملات وموجودات أخرى كمستودع للقيمة. فمن 2000 إلى 2005 عندما خسر الدولار ما يزيد على 25 في المئة من قيمته أمام اليورو، ارتفعت حصة الأخير في الاحتياطات الدولية 25 في المئة أيضاً. بينما هبطت حصة الدولار 7 في المئة 7. ومع أن الخبرات السابقة تشير إلى التحول من عملة بدأت بالضعف إلى عملة جديرة بالثقة ممكناً، فمن المستبعد ان يطيح اليورو موقع الدولار على الأقل في الأمدين القصير والمتوسط. فاليورو ما زال يفتقد إلى سجل طويل الأمد من الصدقية وان التزام الدول الأوروبية باليورو ويعتبر عملة بلا وطن لم يضاه بعد تاريخ التزام الولاياتالمتحدة بالدولار كما لا يجند الاتحاد الأوروبي في الوقت الحاضر تدويل اليورو، خوفاً من تعرضه لمضاربات وهزات تزعزع أساسه الهش. لكن ما يجرى من تحول في مكونات الاحتياطات الدولية وسعي بعض الدول إلى فك ارتباط عملتها بالدولار يعتبر انذاراً للإدارة الأميركية كي تتخذ خطوات جدية للحفاظ على هيبة الدولار إذا أرادت ان يستمر العالم في استعماله كعملة احتياط دولي ومخزناً للقيمة يعوّل عليه. تجدد الإشارة إلى ان الدول ليست حرة بالكامل في كيفية احتفاظها باحتياطها بأي عملة تتكون منها هذه الاحتياطات. فالولاياتالمتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تمارس ضغوطاً مباشرة على دول للاحتفاظ باحتياطاتها بالدولار فقط كما هي الحال مع ألمانيا وربما اليابان. خلاصة القول إن انخفاض الدولار منذ 2002 هو نتيجة سياسات الإدارة الأميركية الحالية. لذلك يتوقع له أن يستمر ما دامت الإدارة الحالية مستمرة. * باحثة وكاتبة اقتصادية 1 the Economist Print Edition, July 26 Th. 2007 2 المصدر أعلاه 3International Financial Statistics, IFS, May ك. 2007 4 International Financial Statistics, IFS, August .2007 5 International Financial Statistics, IFS, August .2007 6 Economist Print Edition,"Soft Currency", july 26 Th, 2007 7 هل يطيح اليورو عرش الدولار؟ ل وليام ل. سيلبر، جريدة الخليج 21/7/2007.